آداب وفنون

قراءة نقدية في كتاب جدار القلب لشهاب المليكي.

[su_post field=”post_date”][su_spacer size=”10″]
[su_label type=”warning”]كريتر نيوز/مبارك برك بن جوهر[/su_label]

لقد استثارني كتاب جدار القلب بنصوصه الأنيقة وتراكيبه العذبة فلم أقدر أن أغض الطرف عنه ، لذا ارتأيت أن أكتب هذه القراءة عنه لعلي أعطيه بعض ما يستحق ، وأول ما استوقفني في الكتاب عتبته الكبرى المتمثلة في عنوان الكتاب وهو يحمل شقين متنازعين لا يمد أحدهما بصلة للآخر مما زاد التجاذب بينهما فشكّلا لحمة واحدة متينة ، فالجدار يشير إلى الصمود والمنع والقوة والجفوة وبرودة العاطفة بينما القلب يشير إلى الاحتواء والرقة والرضوخ والضعف ودفء المشاعر واضطرام العاطفة ، وعندما نطيل الوقوف والنظر في هذه العتبة نجد تماسكًا عجيبًا في طرفيها وانتقال صفات كل طرف للآخر ، وأعتقد أن الكاتب كان يرمي لشيء غامض عندما اختار هذه العتبة لكتابه وها نحن ذا في طور الاكتشاف والتضمخ بعطر كلماته .
إن الناظر في جدار القلب للمليكي لا يجد فيه أي ملمح يوحي بدلالة على تشييد صرح القلب بجداران متقنة البناء مما يجعله يتسع للدنيا كلها بما فيها ، على العكس تمامًا فهو يتسم بكل صفات المنع والصلابة الموحشة حتى لكأني أقف أمام بناءٍ أعظم من سد ذي القرنين لا يملك أحد النفاذ منه ولا الارتقاء عليه وقلت لنفسي لا بد من وجود حيلة تجعل المرور منه سهلًا وتجعله يصير شفافًا لسبر أغوار هذا الجدار العجيب الذي يملك من النثرية المتجاوزة والصور الإبداعية ما يجعل العقل يقف حائرًا ساعة من الزمن حتى يستطيع أن يمسك بطرف خيط يتكشف بعده هذا الإبهام .
2
وكلما توغلنا أكثر في بنية هذا الجدار ازداد بهرنا وعجبنا حيث أن عتبات النصوص أيضًا لا تقل سحرًا وجمالًا عن العتبة الكبرى ، حتى إنني عندما أعدت ترتيب مجموعة من العناوين المتباعدة تباعًا تكونت لي جمل إبداعية فمثلًا على مستوى العتبتين تباعًا ” أتعبني حبك في طريق الوداع ” و ” البحث عن حبيبة جريمة كبرى ” و ” ضحكات الجميلات طريق الألم ” ، وعلى مستوى العتبات الثلاث تباعًا ” قانون حب الأميرات التغزل بك عندما أشتاق ” و ” عودتها مصادفة غيمة سوداء ” ، مع أن قارئ هذه الجمل لا يكاد أن يشعر بكونها ليست من سياق كتابي واحد لتجانس الألفاظ مع بعضها ، وبالطبع هذه ليست جميع العتبات المتجانسة في كتاب جدار القلب فهي كثيرة ولا يسع المقام هنا لذكرها جميعًا ولكن حسبنا ما ذكر في هذا الجانب آنفًا لندلل به على قوة البناء وتناسب لبناته .
وعلى مستوى آخر في قراءة عتبات العنوان نجد ارتقاءً في البناء وتطورًا في الألفاظ فمثلًا عندما قرر الكاتب الحديث عن الكذب وصفه أولًا بأنه كلام كاذب وحاول التجرّد من قائلته فوصفها بأنها كاذبة ولكن سرعان ما يصبح هذا التجرد هو الانتماء بعينه فتصبح القائلة كاذبته الخاصة وملكه الذي لا ينازعه فيه أحد حينها فقط يصير الكذب منها صادقًا ، وفي حديثه عن الرحيل نجده يبدأ بطلبه في أول عتبة تقابلنا بعد مجاوزة العتبة الكبرى والمقدمة بقوله : ” ارحلي ” ولكننا نجده فيما بعد يندم على ذلك الطلب ويقول بقلب متألم حزين : ” لو لم ترحلي” وهذا يجعل القارئ في حيرة حلوة يستعذبها من الكاتب حيث أنه لا شيء عنده يبقى ثابتًا على حاله فالندم يصبح فرحا والفرح مآلها الندم والبكاء .
3
وعندما نضيّق عدستنا المتفحصة للنصوص نجدها لا تخلو من إحدى بنيتين هما النفي والاستفهام ولكل منهما دلالته الخاصة التي تضفي رونقًا خاصًا على النص ، ففي بنية النفي نجد أن الكاتب تارة يستخدم ‘ لن النافية ‘ في مثل قوله : ” لن تتغير الدنيا – لن يحل السلام في موطني – لن تظل صامتة ” ، وتارة يستخدم ‘ لا النافية ‘ في مثل قوله : ” لا أقولها لفتاة جميلة – لا يوجد لديه ماء ” ، وتارة يستخدم ‘ لم النافية ‘ في مثل قوله : ” لم يأتِ كسرها في الحسبان – لم نفترق ” ، وتارة يستخدم ‘ ليس النافية ‘ في مثل قوله : ” ليس له سياج حديدي ” ويتجلى في بنية النفي هنا إنكار مجموعة من المسلمات التي كان القارئ يعلم بوجودها وإعطائه معرفة أخرى لم يكن يتوقعها ، وهذا هو سر جمالية النفي التي أراد الكاتب أن يخضّب بها نصوصه .
أما بنية الاستفهام وما يشير إليها فأكثر من النفي حضورًا ودلالية في الكتاب بدءًا بالعتبات مثل ” ماذا تريد ؟ – سؤال يقتلني – إجابة – هل تسمحين لي ؟ – ماذا بعد ؟ – هل ستأتي ؟ ” ، ومرورًا بسياقات النصوص مع تباين واضح في حضور هذه البنية بين نص وآخر في القوة واختيار الأداة فتارة تكون حيرة الكاتب قوية جدًا فلا يعود يعرف شيئًا مما حوله حتى حبيبته الذي ظن أن يعرفها جيدًا تصبح في لحظة حدثًا غير مفهوم فيقول في استفهامه عنها : من أنت حبيبتي ؟ ، وتارة نجده يكتفي بسؤال المغلوب على أمره المستجدي البقاء فيكفتي بعبارة واضحة باهتة بقوله : أتريدين الرحيل ؟ ، وتزداد وتيرة التساؤل والحيرة عندها في لحظات غير مسبوقة فيصبح لا يعرف حتى نفسه بقوله : من أنا ؟ ، وبالمجمل فتناوب هاتان البنيتان على نصوص الكتاب يجعل القارئ يتخيل تناوب مكونات الجدار في بناء تكاملي يشكل وحدة متصلة الأطراف .
4
كذا مما لا يمكن إغفاله في نصوص الكتاب ثنائية أخرى تتجلى في الحضور والغياب ، حيث أن الكاتب وهذا مما لا شك فيه يتحدث عن محبوبة غائبة البدن حاضرة الروح في كل الموجودات حوله ويتذكر اللحظات التي كانا يمضيانها معًا ولو في جزء هامشي من مخيلته فتارة يطلب منها الرحيل وتارة أخرى يستجديها بأن تبقى ، وحالما يستشعر ظلمها الواقع عليه يقوم بمقاضاتها في المحكمة ويبسط للقاضي جميع القرائن التي تدينها ولكنه مع هذا كله لا يكف عن مناداتها بسيدته ويسهب في الحديث معها عن نفسه التي سرعان ما يصبح لا يعرف شيئًا عنها في لغة سلسة مبتكرة .
لقد جعلني شهاب المليكي أعيد قراءة الحضور والغياب في كتابه أكثر من مرة ، وفي كل مرة ينقطع نفسي وأنا أحاول أن أحسب المسافة بين الدلالتين المتقاربتين في اللفظ المتباعدتين في المعنى ، إذ أن الحبيبة مهما حاول الكاتب التجرد منها وإقصائها عنه وعن أحرفه إلا أنها دائمًا ما تفلح في العودة والظهور بين الكلمات ولو على صورة فاصلة ، وحضورها المتكرر يدخل القارئ والكاتب معًا في حالة من الغياب عن العالم المحيط بهما وكأنها تعيد ترتيب الكلمات وفق ما تحب وتفاجئنا بحضور غير متوقع بعد أن أيقنا غيابها الدائم ولكن هيهات أن تغيب وهي سر هذا الجدار الذي أوشكنا أن نتعرف على موضع الحجر الغامض الذي يجعله شافًا لحظة تحركه .
5
أما الصور الإبداعية لدى الكاتب فحسبي أن أعرّج على ثلاثة منها فحسب وذلك لأن وقتي لم يسعفني لإيراد غيرها ، وأولاها قوله : ‘ عراة القلب ‘ وهو تركيب لم يسبق لي أن عاينت مثله فأي إنسان هذا الذي أصبح صدره عاري القلب وكيف يمكن تصوره بغير كسوة داخلية تمثل كنهه وحقيقته وهل يعقل أن يكون ما زال على قيد الحب أم فارقه وتعرّى جسده أيضًا من روحه ، ما زلت حتى لحظتي هذه في التباس وحيرة من أمري ولكني توصلت أخيرًا بأن النص النص تعرّض لوحشية من المحبوبة بتجاهله لذا تعرّى قلب كاتبه من نبضه وأصبح جامدًا .
وثانيها احمرار الشفق خجلًا منه في محاولة لإدخال الكون في معاناته مع هذا الحب المتأرجح في مدارات من اللا وعي وهذه علة جميلة لاحمرار الشفق بعد غروب الشمس فكأن غروبها لم يكن وفق دورة يومية معتادة وإنما قررت إنهاء هذا اليوم خجلًا من المحب الذي لم تملك أن تعيد له محبوبته الراحلة عن ناظريه القابعة في روحه ، وهي صورة تستحق الوقوف أمامها دهرًا كاملًا لفهم ملابساته وملامحه جمالها ، إذ أنها تملك من الدلالات المتجاوزة الشيء الكثير .
وأخيرًا قوله : ” ليلى .. وليست كل الليالي تشبه ليلى ” وهي أجمل صورة أقف عليها في الكتاب كله حيث أنها فاضل بين إنسان وزمان في موضع هامشي من اللا مكان ، لأنه لم يقل : ليلى وليست كل الليلات كبعضهن ولم يقل : ليلة وليست كل الليالي كبعضهن ، لتصبح الصورة اعتيادية مستساغة وإنما ابتكر في لغته فجعل الذات الأنثوية المشير بها إلى محبوبته تصلح لأن تكون إنسانًا وزمانًا ومكانًا في الآن نفسه وحينها تكون هي عالم منفرد بذاته وفي الجانب الآخر وضع الزمان المشير به إلى باقي الدنيا وجعل ليلاه أفضل من كل الدنيا وهذا هو الابتكار والجمال بعينه .

زر الذهاب إلى الأعلى