صور عدن الفوتوغرافية في كتب الرحلات الغربية حتى ثلاثينيات القرن الماضي

كتب/ مسعود عمشوش
بعد أن تناولنا في مقالنا السابق (بدايات التصوير الفوتوغرافي وتوظيفه في الكتب والمجلات)، نكرّس السطور الآتية لعرض كيفية توظيف الصور الفوتوغرافية في بعض كتب الرحالة الغربيين. ومن المعلوم أن كتب الرحلات كانت في الأساس تعتمد كليّاً على النصوص. لكن بعد اكتشاف التصوير الفوتوغرافي في مطلع القرن التاسع عشر، حرص معظم الرحالة والمستكشفين على اقتناء معدات التصوير الفوتوغرافي، التي كانت في البداية كبيرة الحجم ومتعددة الأجزاء، وذات تقنيات فنية محدودة، مما جعل عملية التصوير صعبة ومكلفة.
كما أنّ التنقل من مكان إلى آخر كان تحدياً كبيراً، لاسيما في المناطق النائية والجبلية والصحراوية، ومنها بلادنا. وفي بعض المجتمعات كانت هناك بعض القيود الاجتماعية والثقافية على التصوير. لكن مع مرور الوقت، تطورت العادات والتقنيات وأصبح التصوير الفوتوغرافي أكثر سهولة وأعلى مستوى فنيا. وعند نهاية القرن التاسع عشر صارت الصور الفوتوغرافية جزءاً أساسيا من كتب الرحلات، وساعدت الرحالة على إضافة بعد بصري واقعي على السرد النصي لرحلاتهم؛ فمن من خلال الصور تمكنوا من توثيق مناظر الطبيعة والحياة اليومية في المناطق التي يزورونها، لاسيما في الشرق.
ومن المؤكد أن الصور الفوتوغرافية قد مكنت الرحالة من تقديم أبعاد حيّة للقارئ للشرق؛ معالمه التاريخية وتقاليده، وأسهمت كثيرا في إعادة تشكيل رؤية الغرب للمجتمعات الشرقية، وفي تغيير بعض المفاهيم السرابية والخاطئة والأحكام المسبقة التي ترسخت في أذهان القارئ الغربي الذي كان يميل لجعل عالم (ألف ليلة وليلة) الخيالي مرادفا للشرق.
وحسب علمي كانت مصر وبلاد الشام هما اللتان حظيتا أولا باهتمام المصورين الغربيين على مستوى الشرق. أما على مستوى الجزيرة العربية فقد كانت عدن، التي كانت محطة إجبارية لجميع الرحالة والمستكشفين والسياح المتجهين للشرق وسواحل القرن الإفريقي، هي المدينة التي أُلتِقط فيها عدد كبير جداً من الصور الفوتوغرافية التي يعود أقدمها إلى خمسينيات القرن التاسع عشر.
وبالطبع هناك كثير من المصورين والسياح والعسكريين الغربيين الذين زاروا عدن والتقطوا فيها صورا جميلة جدا منذ افتتاح قناة السويس سنة 1869. ونشر عدد كبير من تلك الصور في المجلات والكتب والمواقع الإلكترونية. وهناك كذلك كتب رحلات تضمنت الكثير من الصور الخاصة بعدن. وهي التي تهمنا هنا.
وحسب علمي يعدُّ كتاب الرحالة الفرنسي جورج ريفوال (ذكريات السفرـ رحلة إلى بلاد الصومال) من أوائل تلك الكتب، فهذا الرحالة مكث عامي 1880 و1881 في عدن قبل أن يتوجه إلى الحبشة. وخلال إقامته في عدن التقط كثيرا من الصور التي اكتسبت شهرة كبيرة، ففيها نشاهد تفاصيل دقيقة لميناء التواهي والمعلا -التي كانت حينذاك مجرد طريق يربط التواهي بكريتر وتتناثر على جانبيه الصنادق والأكواخ الخشبية التي كان معظم سكانها من الصوماليين.
ومن أشهر الصور التي التقطها ريفوال في عدن صور برز فيها الشاعر الفرنسي آرثر رامبو عند مقهى يقع عند مدخل أحد فنادق التواهي. وضمّن التاجر الفرنسي ألفرد بارديه كتابه (بر العجم 1881) بعض الصور الفوتوغرافية المهمة لعدن.
أما موظفه الشاعر آرثر رامبو الذي وصل عدن سنة 1880 فلم يلتقط بالكيمرا التي طلبها من فرنسا إلا قليلا من الصور التي توثق رحلته في القرن الإفريقي.
وفي ثلاثينيات القرن العشرين ضمنت الرحالة فريا ستارك كتبها عن الجنوب عددا لا بأس به من الصور التي نشاهد فيها الصهاريج وقلعة صيرة والتواهي، وصور لعدد من الشخصيات المعروفة حينذاك في عدن مثل الشاعر علي محمد لقمان وأنتونين بس وكذلك صورتها وهي تذيع أخبار الحرب العامية الثانية وسط الجماهير في ساحة الميدان بعدن.
وتجدر الإشارة كذلك إلى أن كثيرا من تلك الصور المبكرة لعدن قد تمت طباعتها في البطاقات البريدية التي ازدهرت منذ نهاية القرن التاسع عشر. وتتضمن تلك الصور المنشورة في البطاقات (والطوابع) البريدية تمثيلا بصريا لعدن ومبانيها وتراثها ومعالمها الأثرية، ومناظرها الطبيعية. كما توثق تلك الصور للسياق التاريخي للمدينة لاسيما خلال فترة خضوعها للإدارة البريطانية.
لهذا يمكننا التأكيد أن الصور الفوتوغرافية التي ألتقطها الرحالة والمستكشفون تشكل اليوم جزءا مهما من ذاكرة المدينة، فكثير من معالم عدن ومبانيها المشهورة لم يعد -للأسف- بالإمكان مشاهدتها إلا في تلك الصور. بل أن بعض تلك الصور تكشف لنا بعض العادات والطقوس التي لم تعد اليوم موجودة. مثلا هذه الصورة الفوتوغرافية التي التقطت في نهاية القرن الثامن عشر وتوثق موكب كسوة الولي الشيخ أحمد وسط مدينة التواهي.
ولكثافة الصور الفوتوغرافية التي تضمنتها كتب الرحالة الغربيين عن عدن كرس أحد الطلبة رسالته للماجستير في الدراسات الثقافية لدراسة الكيفية التي وُظِّفت بها تلك الصور لتمثيل عدن في الطوابع والبطاقات البريدية، وبيّن فيها الأبعاد والتطورات التاريخية والسياسية التي انعكست على تصميمات الطوابع والبطاقات البريدية.