آداب وفنون

“البونساي”

خاطرة/ جيهان حمّادي

قيل في الإسراف: “لا تبسط يدك كل البسط حتى لا تقعد ملوماً محسورًا”..
نسرف في كل شيء ممّا نمتلك، دون أن ننتبه إلى ذلك أو حتّى نحسّ بخطورة ما نحن مقبلين عليه، نستنزف كل ما فينا من مشاعر جيّاشة، فتدق أجراس الألم بصدورنا لتفضح عمّا تخفيه فينا. أنا الّتي قيل عنها ناؤم الضحى، كيف أصبحت أقلّب كفّيّ على ما أنفقت هباءً، لو أني أنفقت مالاً منثوراً ما أخذتني الحسرة بهذا القدر، وإنّما أنفقت مشاعرَ.
كانت مشاعرَ صادقة بطعم السذاجة في أماكن محظورة، كانت مشاعرَ في غير مكانها، أصابني داء الضرائر في غفلة من أمري، ولم أدرِ أنّ ما ضرّني ما هو إلاّ شيطان الفلا..

أتعطّش، نعم.. ليس اشتياقاً بل وحدة وحسرة، وإن اشتقت فإنني سأشتاق لنفسي التي لكمتها في اللحظة التي أغدقت فيها السعادة لمن هم حولي ونسيتها، ظلمت نفسي بالقدر الذي أنصفت فيه لهم، ونسيت أنّ لنفسي حقّاً عليّ أيضاً.
أتدري ما يقول العرب عن المسرف في أمواله؟ أنا سأجيبك يا نفسي: يقولون “منخرق الجيب”، أما أنا اليوم فسميّتك يا نفسي منخرقة القلب، وعريضة القفا الّتي قلعت أسنانها لما آلت بها الحال، حتّى جبال النار الّتي كانت تتناثر بداخلي فقد حرق جوفي ولم أجد لجّة تخمده..

أقبع بمكاني، أغفل عن تفاصيل صغيرة محاطة بي، وكأنّي اليوم بالمكان الكفء الذي أنتمي إليه وأكون فيه، على يساري شجرة “البونساي” تحتضنني بأوراقها المتساقطة من فوقي، وكأنّها تحتفل بقدومي عندها، وتشنّف أسماعي زقزقة عصفور فتطربني أشجانه، إذ به زائر لطيف يؤنس وحدتي ويداعب همسي، تأملت السيماء من حولي متناسية علّتي، فأدركت حينها أيّما إدراك أنّني أنتمي إلى ذلك المكان، الطبيعة وما أدراك ما الطبيعة، تنضوي النفس بها ولم تتبرّأ، ولعلّ المتأمل فيها يدرك الحكمة منها، تلك الطبيعة الّتي وهبتنا أذنين ولساناً واحداً كي نسمع أكثر ممّا نتكلّم.
وحتّى تكونين للطبيعة خليلة، عليكِ أن تتأمّلي تفاصيلها الصغيرة أوّلاً، عندئذ ستدرك المتعة طريقكِ أينما ولّيْتِ يا نفسي.

زر الذهاب إلى الأعلى