مذكرات سجين

نثر: عمر محمد العمودي
_
أن تُسجن دون تهمة كأن تدفن حيًّا دون جنازة
_
من لم يخبروه بجريمته، يعيش دهرًا وهو يبحث عنها داخله
_
كلما حاولت تذكر جريمتي المزعومة، كنت أخلق جريمة جديدة في مخيلتي
_
لم أسألهم عن السبب، خشيت أن أساعدهم في العثور عليه
_
كنت أتمنى أن أكون مذنبًا.. على الأقل سيمنحني ذلك قصة أرويها للسجناء
_
لسنوات كنت أنتظر أحدًا يخبرني أنني حرّ، أو مذنب. لم يصل أيّ منهما
_
لا شيء يعادل ذلّ أن تبحث عن سبب لتستحق عقابك
_
أن تعيش بلا سبب، أخفّ من أن تسجن بلا سبب
_
حين لا يعرف الناس تهمتك يبدأون باختراعها
_
أكثر ما يخيف أن يتحوّل عدم معرفتك إلى يقين
_
لم أعد أمتلك سوى حلم واحد، وهو: أن أُدان بتهمة حقيقية لأعرف كيف أُبرّر نفسي
_
في البداية كنت متأكدًا من براءتي، مع مرور السنوات أصبحت أُصدّق أنني مجرم
_
السجن بلا سبب يخلق جريمة جديدة؛ جريمة تصديق أنك مذنب!
__
في السجن.. لم يكن القيد على يديّ
القيد كان على الساعة المعلّقة في الممر!
_
هنا الليل بلا نجوم، والنهار بلا أفق..
_
كنت أظن أن السجن يسرق الوقت، ثم اكتشفت أنه يزرعه داخلي كأشواك
_
صرتُ أحتقر الساعة، فهي تتباهى بأن لها عقارب، وأنا لا أؤمن بالوقت
_
كرهت فكرة الخلود، لأني ذقت طعم التكرار
_
كل سجدة هنا أطول من عمري كله
_
الزمن في الخارج يسير إلى الأمام، في الداخل يدور حول نفسه حتى يدوخ
_
بعد عام واحد توقفت عن عدّ الأيام، صرتُ أعدّ التشققات في الجدار
_
لا وجود لجحيم أعمق من جدار تعرف كل مساماته
_
كلما مرت سنة أشفقت أكثر على السجان.. لأني أظن أنه خارج الحياة تمامًا!
_
في الخارج لديهم وقت فراغ، هنا لدينا فراغ الوقت
_
أعدّ القضبان كما يعد الطفل أصابعه
_
في السجن، صوت المفاتيح موسيقى الخوف
_
كل صوت مفتاح يفتح بابًا في رأسي لا يُغلق أبدًا
_
أحاول الثبات، فأرى ظلّي على الحائط يرتجف
_
أشد أنواع التعذيب حين تسمع أغنيتك المفضلة من هاتف السجان
_
بجانبي سجين تهمته الاستحواذ على ميراث..
يتعذب في كل مرة نقسم فيها الخبز بالتساوي
_
أكثر ما يوحدنا أننا جميعًا نحلم بالأبواب، حتى من ولد بلا بيت
_
في السجن لا تجوع المعدة.. تجوع العظام
_
كثيرًا ما أسترجع طفولتي، حين كنت أنتظر يدًا تفتح الباب، ولا تأتي
_
من الداخل أرى السماء أقل زرقة، لأني أتذكرها أكثر مما أراها
_
السجن يقتل الألوان، حتى يبقى الرمادي سيّد المشهد
_
كل ذكرى سعيدة تتحول في الزنزانة إلى سكين
_
الألم الحقيقي للسجين أنه لا يستطيع إيقاف ذاكرته
_
فقط الندم في السجن أكثر طولًا من الليل
_
بعد سنوات.. تصير الطيور شتائم متحركة في السماء
_
الحنين هو السجّان الأكثر إخلاصًا، لا يتركك حتى في منامك
_
لو كان لي أن أختار شيئًا في السجن سأختار زنزانة أكبر.. كي لا أصطدم بنفسي كثيرًا
_
الحريّة ليست أن تخرج من الباب، الحريّة أن تمحو الباب من خيالك
_
الخيال أشد قسوة من السجان
_
في الخارج يخافون الموت، أما هنا نخاف أن نستيقظ يومًا آخر
_
الغفران الذي نطلبه من الله غالبًا لا نمنحه لأنفسنا
__
لم أعد أبحث عن البراءة، الآن أبحث عن معنى للذنب
__
الزائرون يجلبون الشمس في عيونهم، ثم يتركونك في الظل حين يغادرون
_
العناق الممنوع أثقل من القيود
_
بعض الزائرين يجلبون أخبار العالم، وبعضهم يجلبون العالم كله في أعينهم
_
بعد مغادرتهم كنت أتنفّس كمن يعود من جنازة طويلة
_
أحسد الذباب، له جناحان، وعمره أقصر من مدة سجني
_
لم يكن في السجن مرآة، كنتُ أرى وجهي في ملامح كلّ سجين جديد
_
حتى الأسئلة تحوّلت إلى قضبان أعضّ عليها
_
لم أعد أفتقد الشارع، أصبحتُ أفتقد الشكّ أن هناك شارعًا أصلًا
_
داخل السجن استرجعت حياتي كلها بحثًا عن جريمتي
حتى وصلت إلى طفولتي
حين كنت وحدي في مهد صغير بأعمدة نحاسية
يا إلهي، كيف لم أفهم طوال هذه السنوات بأن مصيري هو القضبان؟!
_
حين صرتُ أرى القضبان في عينيّ المغلقتين، فهمت أنّي انتهيت
__
خرجت من السجن، كل شيء مألوف، وكل شيء غريب
_
لا أحد يدرّبك على الخروج، يرمونك في الضوء فجأة مثل حيوان خرج من القبو
_
وجوه الناس في الخارج أكثر برودًا من وجوه السجانين.. لم أعد أعرف من يحرّر من؟
_
حين خرجت شعرتُ أنّي أمتلك كل الوقت في العالم، لكن لا أعرف ماذا أفعل به
_
كل شيء له طعم البلاستيك، حتى الشمس شعرت بها مثل مصباح مستعار
_
الناس في الخارج يتحدثون بسرعة، وأنا مازلت أتلعثم ببطء الزنازين
_
كل هذه السنوات علّمتني كيف أصمت، الآن يريدونني أن أتكلّم بسرعة في حياتي القادمة
_
بعد خروجي من السجن..
كلما رأيت بابًا مفتوحًا، يرتجف قلبي خشية من أن يغلقونه عليّ
_
الحرية ثقيلة، ثقيلة إلى درجة أنك تفكر بإلقاء نفسك في أقرب زنزانة لتستريح
_
سُجنت بلا سبب.. خرجت وأنا أحمل كل الأسباب لأُسجن ثانية.