السرد الملحمي.. صوت الجماعة في وجدان الشعوب

كريترنيوز /متابعات /ريم الكمالي
السرد الملحمي هو من أعرق أشكال الحكاية الإنسانية، يقوم على تمجيد البطولة الجماعية أو الفردية، باستعادة الصراع بين الخير والشر في صيغة كبرى يتجاوز فيها الإنسان حدوده الفردية ليصبح رمزاً للأمة أو القبيلة أو الإنسانية كلها. ففي هذا السرد، لا تكون القصة مجرد حكاية شخصية، بل ملحمة يعيشها المجتمع بأسره.
حيث يتحوّل البطل إلى صورة عن القيم العليا، مثل الشجاعة، الكرامة، التضحية، والبحث عن المجد، حيث نجد في التراث الإنساني، جذور هذا النمط في ملحمة جلجامش في الرافدين، والإلياذة والأوديسة عند هوميروس، وفي المهابهاراتا والرامايانا في الهند، وجزيرة العرب الزير سالم، من السير الشعبية التي لا تُمل.
حيث يتجسد السرد الملحمي في الحرب المستمرة، وهي واقعية مأساوية بلا شك، تم تكرارها لتضع الفرد إلى مصاف الجماعة، وتبيان الكرامة المختلطة بالعناد، فتحولت إلى نصوص لم تكن مجرد روايات أسطورية، بل كانت تعبيراً عن الذاكرة الجمعية للشعوب، تُحفظ بطولاتها ودروسها، وتعيد صياغة رؤيتها للعالم.
في التراث العربي ازدهر هذا النوع من السرد الملحمي الشعبي أيضاً في صورة السير الكبرى التي تناقلها الحكّاؤون جيلاً بعد جيل، كسيرة عنترة بن شداد، التي مزجت التاريخ بالأسطورة.
وقدّمت عنترة بوصفه بطلاً يتجاوز عبوديته ليصير فارساً ملحمياً ورمزاً للشجاعة والكرامة، وكذلك سيرة سيف بن ذي يزن، التي امتلأت بالغرائب والمعجزات.
وجعلت من البطل اليمني شخصية أسطورية تواجه قوى الجن وتنتصر للعدالة، لتمتد الملحمة من التراث العربي القديم إلى الأدب العربي الحديث، حيث استعاد بعض الروائيين هذه الروح الملحمية ليكتبوا نصوصاً تتجاوز الفرد إلى الجماعة.
فـنجيب محفوظ في «الحرافيش» قدم حكاية أجيال من البشر في حارة مصرية، تحولت إلى ملحمة تعكس صراع الخير والشر عبر الزمن. أما عبدالرحمن منيف في «مدن الملح» فقد بنى نصاً ملحمياً عن تحولات الخليج أمام النفط والحداثة، جعل فيه الجماعة بطلة القصة، لا الفرد وحده.
خليجياً وإماراتياً، يمكن قراءة بعض الأعمال في ضوء الروح الملحمية، من خلال بعض الروايات، فالكتابة عن الغوص والبحر والرحلات، كما في روايات علي أبو الريش.
ووداد خليفة في زمن السيداف، تحمل بعداً ملحمياً لأنها تمجّد صراع الإنسان مع الطبيعة وشر الإنسان، وتضعه في مواجهة مصيره الجمعي، كما أن بعض النصوص التي تتناول تاريخ القبيلة والتحولات الكبرى للمجتمع الإماراتي تقترب من البنية الملحمية في إبرازها البطولة الجماعية.
أهمية هذا النوع في الثقافة الإنسانية أنه حافظ على الذاكرة الجماعية في زمن لم تكن فيه الكتابة شائعة، فقد لعبت هذه الملاحم دور المدرسة الأخلاقية والسياسية للشعوب، إذ غرست قيم الفروسية والشجاعة، وربطت الحاضر بالماضي في سياق طويل من البطولة..
تكمن أهمية السرد الملحمي اليوم في أنه يذكّر الإنسان المعاصر، وسط عزلته الفردية وضغط الحياة المادية، بأنه جزء من جماعة ومن سرد أكبر، ويقدم الحكاية بوصفها صوت الأمة، ويعلّم أن البطولة لا تخص الفرد وحده، بل تمتد لتكون تعبيراً عن قوة الجماعة وقدرتها على مواجهة التحديات.
وبذلك، يظل السرد الملحمي ضرورياً، لأنه يعيد إلينا الإحساس بالبطولة والمعنى المشترك، ويذكّرنا أن الحكايات الكبرى ليست مجرد ماضٍ يُروى، بل ميراث حي يمكن أن يغذي حاضرنا ويمنحنا الثقة في مستقبلنا.