المبدعون العرب والذكاء الاصطناعي..ارتباط مؤجّل ومحاذير بالجملة

كريترنيوز/ متابعات /جاسم طه حمد
يشهد العالم طفرة غير مسبوقة في تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، واقتحامه مجالات حياتية عدة، ومنها الإبداع في حقول الثقافة، حيث أضحى عنصراً مهماً في تشكيل ملامح مستقبله، ويلعب دوراً محورياً في مجالات الأدب والفن، من خلال ما يتضمنه من خوارزميات ونماذج قادرة على ابتكار نتاجات وتوليد محتوى بالاعتماد على البيانات، فهو يوفر أدوات للتعبير، متجاوزاً المفاهيم التقليدية للفن، وواعداً بجعل الإبداع أكثر سهولة على أهله.
ويستفيد كثير من فناني ومثقفي العالم من هذه التقنية لتعزيز نتاجاتهم، وتسهيل أعمالهم، ومع ذلك، لا يزال حضور المبدعين العرب في هذا المشهد محدوداً ولا يرتقي للمستوى المطلوب.
إذ يلاحظ أن البعض يسعى إلى الالتحاق بمضمار السباق نحو استثمار الذكاء الاصطناعي وتوظيفه في خدمة المشهد الثقافي، في حين يتأخر آخرون عن استخدام مثل هذه التقنيات، ما يؤثر في نمو الاقتصاد الإبداعي العربي وتحقيق الأهداف المنشودة من هذا القطاع.
تعود أسباب التأخر – حسب ما أكد فنانون وأدباء ونقاد لـ«البيان» – إلى إشكالات مرتبطة بظروف بعض البلدان ونقص الوعي بأهمية الذكاء الاصطناعي، مشيرين إلى أن لدى البعض هواجس ومخاوف من أن يصبح سيد المشهد الثقافي على حساب الإبداع البشري، لافتين كذلك إلى تحديات متعلقة بحقوق الملكية الفكرية.
بداية، يؤكد الفنان والمسرحي الإماراتي مرعي الحليان، أن هذه التقنية لا تخلق عملاً بل تخدمه، ولا يمكن لأداة أن تأخذ مكان المبدع، لأنها تفتقد إلى المشاعر والأحاسيس، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون وعاء لحفظ الأشياء والتزود بالبيانات. ويتابع: «في مجال المسرح العلاقة مباشرة بين المؤدي والجمهور، ولا يمكن للآلة أن تكون بديلاً».
تحديات وأخلاقيات
وتؤكد الروائية التونسية د. أميرة غنيم، أن قدرة الذكاء الاصطناعي على إنشاء نصوص إبداعية جيدة، أضحت أمراً واقعاً لا مناص من التعامل معه، لكن التردد في الاستفادة منه في مجال الخلق الأدبي، ليس فقط في العالم العربي بل في العالم عموماً، مبرر باعتبارات عدة، ليس أقلها غياب الضوابط القانونية لاستخدام هذه التقنيات في ميدان الأدب والفنون، مضيفة:
«إن التعويل على الآلات لإنشاء النصوص يطرح اليوم على المنظومة القانونية الدولية وعلى المنظومة الأخلاقية تحديات غير مسبوقة تتعلق بحقوق الملكية الفكرية.
فمن جهة لا يضبط القانون من يملك حقوق المحتوى الذي أنشأه الذكاء الاصطناعي، هل هم المطورون الذين أنشؤوا الأنظمة الذكية وزودوها بالبرمجيات وتقنيات التدرب الذاتي لتكون قادرة على إنشاء النص الإبداعي؟

أم هم أصحاب النصوص المنشورة التي اطلع على نُسخها الرقمية الذكاء الاصطناعي واستخدمها لتدريب نفسه؟ في الحالتين يكون في استخدام الذكاء الاصطناعي انتهاك لحقوق الملكية الفكرية واعتداء على أخلاقيات الأدب».
وتلفت أميرة إلى أن المتحمسين لاستخدام التقنيات الذكية يرفعون شعار الجزئية، ويقصدون بذلك الاعتماد الجزئي على الأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، واستثمارها لرسم ملامح الشخصية الروائية مثلاً، أو لإدارة الحبكة وإنشاء سياقات درامية، منوهة بأن هذا الأمر يبعث على الاطمئنان بأن الملكية الفكرية محفوظة لمن يوجه الأسئلة للآلة ويوجهها في إنتاج المحتوى المطلوب.
وتوضح أميرة غنيم أن عدداً من الدول العربية بدأت بمناقشة مشاريع قانون متعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي، ولكن إلى اليوم لم تضبط بعد قوانين تواكب التطور السريع لهذه الأنظمة الذكية، لافتة إلى أن ظهور هذه القوانين سيغير مستقبلا كيفية تعامل المبدعين ومنهم العرب مع الأنظمة الذكية، ما قد يغير وجه الأدب بشكل عام.
مادة بلا روح
ويجزم الأديب المصري عبدالفتاح صبري أن الذكاء الاصطناعي بالنسبة للمبدعين سلاح ذو حدين، لأن في استخدامه سلبيات وإيجابيات. ويقول: «أعتقد أنه من الخطأ استخدام الذكاء الاصطناعي في الصناعات الثقافية والإبداعية، والاعتماد عليه بشكل كلي في هذا الخصوص، لأنه لا يمتلك روحاً ويفتقد المشاعر، واللمسة الإنسانية، إلا أنه من الممكن أن يكون أداة تأريخ في المستقبل».
ويشير صبري إلى أن الذكاء الاصطناعي يستطيع تجميع مادة أو نص وفق مطالب محددة، لكنها ستكون مجرد مادة بلا روح أو أي بعد إنساني، لذا عندما نستخدمه سنقتل الخيال والإحساس، فضلاً على أنه لا يدرك جماليات الإبداع، سواء في الاستعانة به بكتابة قصة أو رواية أو شعر أو حتى بحث أو دراسة، لافتاً إلى أنه على المبدعين العرب الحد من استخدامه وعدم الاتكال عليه في أعمالهم بشكل مفرط.
شريك في الإبداع
وتقول الفنانة التشكيلية اللبنانية، المتخصصة في الفن الرقمي، كريستل بشارة: «يعود تأخر بعض المبدعين بالدول العربية في استثمار الذكاء الاصطناعي إلى عوامل عدة، منها نقص الوعي بالتقنيات الحديثة، وضعف البنية التحتية الرقمية في بعض الدول، وقلة الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي مقارنة بالدول الغربية».
وتبين كريستل أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز الاقتصاد الإبداعي العربي من خلال تقديم أدوات جديدة لتحسين الإنتاجية، وتصميم الأعمال الفنية، وتطوير المحتوى بشكل أسرع وأكثر كفاءة، ما يفتح أبواباً جديدة للإبداع والابتكار.
مشيرة إلى أن الذكاء الاصطناعي سيكون شريكاً في عملية الإبداع الفني، حيث يمكنه تسريع وتوسيع الأفكار الفنية، لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات، وهناك مخاوف من أن يصبح الاعتماد عليه كلياً على حساب الإبداع البشري، ما قد يؤدي إلى فقدان الأصالة والهوية الثقافية.
شكوك في نتاجه
ويتبنى الكاتب والشاعر العراقي مؤيد الشيباني، وجهة نظر خاصة في الشأن، ويقول: «أعتقد لو دخل الشعر يوماً ما في تجارب الذكاء الاصطناعي، فإن الشكوك كثيرة حول منتجه، خاصة في مجال الهوية الإبداعية وخصوصية الشاعر والمكان».
ويضرب الشيباني مثلاً قصيدة «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب المليئة بالرمزيات والشواهد الإبداعية، متسائلاً: ما الذي يقابلها حين تبدأ تجربة الذكاء الاصطناعي في عالم الشعر؟
وطبقاً لرأي الشيباني، فإن الشعر أناني لا يتحقق ولا يجب الدخول إلى عوالمه بغير الشعور الحقيقي والإحساس المرهف وليس الاصطناعي.
ويتابع: «القصيدة عمل إبداعي بطابع خاص يحفل بفضاءات التأمل والشغل الحر على اللغة وليس منضبطاً باتجاه تحديد المعطيات وشكلها وبنائها. وأعتقد أن التطورات العلمية وتكنولوجيا التواصل لا يمكن أن تبحر في عالم الشعر، كونه نابعاً من أعمق منطقة عاطفية لدى الإنسان، ومتناغماً مع إمكانات ثقافية فردية بحسب طبيعة الشاعر».
منافس شرس
ويوضح الصحفي والناقد الفني اللبناني جمال فياض، أن الذكاء الاصطناعي سيكون منافساً شرساً للمبدعين في مجالات الثقافة والفنون، حيث بات يمكن الاستغناء عن الإنسان في مختلف المجالات.
فاليوم يمكن أن يرسم ويصنع منحوتة، ويخرج فيلماً، منوهاً بوجود خطر شديد على المبدع العربي إذا لم يحظ بالدعم الكامل، وهذا ضروري كي لا ينعدم الإبداع البشري. ويضيف: «نرى الذكاء الاصطناعي بعينين: واحدة إعجاب، والأخرى حالة قلق وخوف لأنه بدأ يأخذ منا روح الإبداع».

ويلفت إلى أن بعض المبدعين العرب ما يزالون يهملون استخدام الذكاء الاصطناعي، في حين نجد الغرب يعطونه الأهمية المطلقة، وإذا توجه المثقفون والفنانون لاستخدام هذا المجال بشكل صحيح سيبدعون أكثر وسنبني اقتصاداً عربياً إبداعياً جيداً.
ويردف: «نجد مدناً عربية مثل دبي واكبت تطورات التكنولوجيا وباتت لها مكانة عالمية مرموقة في هذا المجال، حيث تعد من أولى المدن التي حفزت الكثير من المبدعين الشباب العرب على استخدام الذكاء الاصطناعي».
يولد الألحان
ويرى الموسيقار إيهاب درويش، رئيس جمعية الموسيقيين الإماراتيين، أنه لا مفر من استخدام الذكاء الاصطناعي في كل مجال. ويستطرد: «اليوم، على الفنان أن يواكب هذه التقنية ويستكشف عوالمها كي لا يفوته القطار، لأنها باتت جزءاً مهماً من حياتنا، حيث توفر الوقت والمجهود وتسهل عمل المبدع. كما لا يمكن استبدال الإنسان بالذكاء الاصطناعي أبداً، ولا سيما في مجال الفن الموسيقي».
ويوضح أنه يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدم موسيقى مقبولة، ويمكنه تحليل ما يحبه الجمهور من أنماط موسيقية، ما يجعل الموسيقي مدركاً للعمل الذي يحقق النجاح، ويزيد تفاعل الجمهور.
ويضيف: «بات الكثير من مبدعي المجال الموسيقي يعتمدون على الذكاء الاصطناعي، سواء في التأليف أو الإنتاج الموسيقي. ومن إيجابيات هذه التقنية أنها تعطي أفكاراً، وتساعد على الإنتاج وتوفر التكاليف، وتولد الألحان وتحسن جودة التسجيلات. في المقابل، يمكن أن يحد الذكاء الاصطناعي من عملية الإبداع الإنساني، لأن الاعتماد في هذه الحالة يصبح بشكل كامل على البرامج التي تؤلف نماذج موسيقية بسرعة كبيرة».
سيف ذو حدين
ويقول الناقد الفني السوري عامر فؤاد عامر: «العالم العربي يدفع ثمن التقنية، ولا يسهم في تطويرها أو في إعادة خلق جديد لها، إذن هو بالنسبة لكل ما يجري من اكتشافات ومزايا تكنولوجية مستقبِل ومستخدم ومستهلك، وهذا ما نجده أيضاً في فورة الذكاء الاصطناعي الجديدة التي عدها العقل الجمعي العربي مادة للاستهلاك، والترفيه، ولخدمة راحته بالعموم».
ويلفت عامر إلى أن بعض المبدعين العرب يرون الذكاء الاصطناعي سيفاً ذا حدين، إذ يؤكد بعضهم أنه داعم للمشهد الإبداعي العربي، في حين يرى آخرون أنه يشكل عبئاً على المجالات الثقافية والفنية في بعض الدول العربية الأخرى. وعن مستقبل الثقافة والفنون في ظل تقنيات الذكاء الاصطناعي، يقول عامر:
«هنالك اتجاهات عدة تمثل مبدعي الثقافة والفنون العربية في ظل الهجوم الكاسح لتقنيات الذكاء الاصطناعي، لكن أبرزها اتجاهان واضحان: الأول عدم الاكتراث بها من باب أن الأصل لا يمكن إبداله بالفرع، وهذا الاتجاه نجم عن فكرة خطورة هذا النوع التقني في الوصول إلى النتيجة المبتغاة بسرعة وما إلى هنالك من تنبؤات علمية بخصوص أن يحل الذكاء الاصطناعي بديلاً عن الإنسان في مجالات الثقافة والإبداع كافة.
أما الاتجاه الثاني فلديه نوع من التقبل والاندهاش من تقنيات الذكاء الاصطناعي من خلال تجاربه الخاصة وفاعلية ذلك على الجمهور، ولا سيما جمهور وسائل التواصل الاجتماعي الذي انتشر في كل مكان وزمان، فلا قلق من فكرة ارتياد الموجة الذكية هذه، والاستفادة منها واستثمارها».
وحسب رأي عامر، فإن الذكاء الاصطناعي قد يكون عبئاً على الثقافة والفنون العربية مستقبلاً بسبب الفارق الكبير والتسارع في الحياة التكنولوجية العصرية التي تحتاج بناء أجيال مستعدة للمواكبة والتطوير.
وأشار إلى أن الذكاء الاصطناعي، اليوم، يصل لقاعدة جماهيرية كبرى وأكثر تنوعاً، وكلما كان في حوزة الاقتصاد الإبداعي العربي تنوع في المعلومات، حقق دخلاً أكثر وفائدة كبرى.
يقرب الإنسان من المعلومة
ويقول الكاتب والناقد المغربي د. سعيد أوعبو: «يقرب الذكاء الاصطناعي الإنسان من المعلومة دون الحاجة إلى تضييع الجهد والوقت في البحث التقليدي، ولكن الاعتماد على التقنيات مرتبط كذلك بتوظيفها بشكل ملائم، ولا شك أن الذكاء الاصطناعي في الأدب سيكون لاعباً مهماً في مستقبل المبدع خصوصاً في النصوص الطويلة».
ويبين أن التحدي الحقيقي يكمن في جعل الذكاء الاصطناعي أكثر إنتاجية، وهذا الجانب مغيب نسبياً في البيئة العربية، المفتقدة إلى العمل الجماعي والمشترك بين المبدع والمتخصص.
تقارير وإحصاءات
أطلقت شركات ومؤسسات عالمية عدة، تقارير حول دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز الاقتصاد، فحسب بيانات شركة «بي دبليو سي (PwC)»، تشهد المنطقة نمواً سريعاً في مساهمات الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد، مع معدلات نمو سنوية متوقعة تراوح بين 20 % و34 %.
وتشير إحصاءات الشركة أيضاً إلى أنه من المتوقع أن يحقق الشرق الأوسط %2 من إجمالي الفوائد العالمية للذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، أي ما يعادل نحو 320 مليار دولار. ومن المتوقع أن يضيف الذكاء الاصطناعي ما يقرب من 13 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030.
ووفقاً لمركز «إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية» في أبوظبي، يتوقع أن يرفد الذكاء الاصطناعي ناتج دولة الإمارات العربية المتحدة الإجمالي بـ352 مليار درهم عام 2030.
ويتوقع تقرير صادر عن «برايس ووترهاوس كوبرز» في عام 2023 أن يسهم الذكاء الصناعي بنحو 46 مليار دولار، أو 8.2 في المئة، في الناتج المحلي الإجمالي، في اقتصادات البحرين والكويت وعمان وقطر بحلول نهاية هذا العقد.