تجربة أشبه بالخيال.. فيزيائيون يحولون الرصاص إلى ذهب في لمح البصر

كريترنيوز /متابعات /وائل زكير
في إنجاز علمي يلامس حدود الخيال، أعلن فريق من علماء الفيزياء في منظمة سيرن الأوروبية عن نجاحهم في تحويل الرصاص إلى ذهب داخل مصادم الهدرونات الكبير، أكبر مُسرّع جسيمات في العالم.
التجربة كانت عبارة عن تصادمات نووية فائقة الدقة جرت بسرعات تقارب الضوء، لتعيد إلى الحياة حلماً سعى إليه البشر منذ قرون.
وعلى الرغم من أن الذهب الناتج كان ضئيلاً ، إلا أن التجربة فتحت آفاقاً جديدة لفهم بنية المادة والتفاعلات التي شكلت الكون في لحظاته الأولى بعد الانفجار العظيم.
وفي أعماق جبال الألب، وتحديداً على الحدود السويسرية الفرنسية، عاد حلم الكيميائيون القدماء إلى الحياة — ولو للحظة خاطفة. ففي مختبرات منظمة سيرن (CERN)، نجح علماء الفيزياء في تحقيق ما كان لقرونٍ ضرباً من الأسطورة، تحويل الرصاص إلى ذهب، لكن هذا التحول لم يكن نتاج وصفة غامضة أو مرجل يغلي بالزئبق والكبريت، بل ثمرة تصادمات نووية فائقة السرعة داخل أضخم آلة علمية بناها الإنسان، مصادم الهدرونات الكبير (LHC).
تجري التجربة في نفق ضخم يمتد بطول 27 كيلومترا تحت الأرض، حيث تُسرّع نوى الرصاص لتصل سرعتها إلى ما يقارب سرعة الضوء.
عند هذه السرعات المذهلة، لا تتصادم النوى مباشرة كما في التجارب التقليدية التي تُنتج بلازما كوارك–غلوون، بل تمر بالقرب من بعضها البعض في ما يسمى التصادمات المحيطية. وفي تلك اللحظة الدقيقة، تُولّد النوى المتحركة مجالات كهرومغناطيسية هائلة الشدة تُصدر سيلًا من الفوتونات، وهي جسيمات الضوء.
هذه الفوتونات تمتلك طاقة كافية لانتزاع بروتونات من النواة. وبما أن عنصر الرصاص يحتوي على 82 بروتونًا في نواته، فإن فقدانه لثلاثة بروتونات يحوله تلقائيًا إلى عنصر جديد يضم 79 بروتونًا — أي الذهب. هذه العملية النادرة تُعرف علميًا باسم التفكك الكهرومغناطيسي (Electromagnetic Dissociation)، وهي ما تمكن فريق تجربة ALICE من رصده للمرة الأولى تجريبيًا.
تقول الفيزيائية أوليانا دميتريفا، إحدى أعضاء الفريق: «إنها المرة الأولى التي نرصد فيها إنتاج الذهب داخل مصادم الهدرونات الكبير ونجري تحليلا تجريبيا مباشرا لآليته».
لكن قبل أن يهرع أحدهم إلى تخيل ثروة جديدة من أعماق سيرن، يجدر التوضيح أن ما أنتجته التجربة ليس ذهبًا يمكن جمعه أو وزنه بسهولة. فالتحول كان آنياً ومجهرياً إلى أقصى الحدود، الذرات الذهبية الناتجة استمرت لأقل من جزء من مليون من الثانية قبل أن تتحلل أو تصطدم بجدار أنبوب التسريع.
وبحسب تقرير سيرن الرسمي المنشور في مجلة (Physical Review C)، فقد نتج عن التجارب الممتدة لثلاث سنوات نحو 86 مليار نواة ذهبية، لكن الكتلة الكلية لهذه النوى لم تتجاوز 29 تريليون جزء من الغرام — كمية صغيرة إلى حدٍّ يجعل ذرة غبار تبدو ضخمة بالمقارنة.
ومع ذلك، فإن أهمية هذا الإنجاز لا تكمن في إنتاج الذهب ذاته، بل في تأكيد تنبؤات نظرية طويلة الأمد حول تفاعلات الفوتون والنواة. فمثل هذه النتائج تساعد العلماء على فهم سلوك المادة في ظروف شديدة الطاقة، كتلك التي وُجدت في اللحظات الأولى من عمر الكون بعد الانفجار العظيم.
يشرح الفيزيائي جون جويت، وهو من المشاركين في التجربة، أن «هذه النتائج تمنحنا أداة جديدة لاختبار وتحسين النماذج النظرية للتفكك الكهرومغناطيسي، ما يساعد على ضبط أداء المسرّعات المستقبلية والتقليل من فقدان الجسيمات أثناء التشغيل».
وما يجعل التجربة أكثر إثارة هو أنها لم تُنتج الذهب وحده. فبحسب عدد البروتونات التي تُنتزع من نواة الرصاص أثناء العملية، يمكن توليد عناصر أخرى مثل الزئبق (80 بروتونًا) والثاليوم (81 بروتونًا) — وهي نواتج أكثر شيوعًا من الذهب ذاته، وفقاً لـ ” dailygalaxy” .
وباستخدام كواشف درجة الصفر (ZDCs) المتطورة في تجربة ALICE، تمكن الباحثون من عدّ البروتونات والنيوترونات المقذوفة بدقة مذهلة، ما أتاح لهم رسم خريطة دقيقة للتسلسل النووي الذي يحدث خلال التحول.
هذا التحليل الدقيق يشبه نوعا من «التحليل الجنائي الذري»، إذ يتيح تتبّع التفاعلات النووية في ظروف لم يكن بالإمكان الوصول إليها من قبل. وبذلك يساهم في تحسين فهم العلماء للبنية العميقة للنواة الذرية ولمدى تأثير الحقول الكهرومغناطيسية الشديدة عليها.
ووفقًا للباحثين، فإن هذه المعرفة ليست مجرد تمرين أكاديمي، بل لها تطبيقات حقيقية في تصميم المسرّعات المستقبلية، وفي حماية حزم الجسيمات من الفقد أثناء التشغيل. كما أنها تقدم بيانات نادرة عن تفاعلات مشابهة لتلك التي يُعتقد أنها حدثت في الانفجار العظيم، حين كانت المادة والطاقة تتبادل الأدوار في بحر من الجسيمات الأولية.
من منظور فلسفي، يمثل هذا الاكتشاف مفارقة جميلة، فقد حلم الخيميائيون في القرون الوسطى بتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب عبر السحر والخلطات السرية. واليوم، بعد قرون من البحث، نجح الفيزيائيون في تحقيق ذلك فعلا — لكن باستخدام معادلات رياضية معقدة ومُسرّعات تفوق حجم مدينة صغيرة. ومع ذلك، فالذهب الناتج لا يمكن لمسه أو بيعه، بل يُنظر إليه كنافذة تتيح فهم القوى الأساسية التي تُشكّل الكون ذاته.
ويقول أحد علماء المشروع : «لم نبحث عن ثروة، بل عن معرفة. فالذهب الذي نحصل عليه هنا هو من نوعٍ مختلف — إنه ذهب الفهم العلمي».
هكذا، يربط هذا الإنجاز بين الماضي والأسطورة والعلم الحديث في مشهدٍ واحد. فمن مراجل الخيميائيين الغامضة إلى أنفاق مصادم الهدرونات العملاق، يستمر سعي الإنسان الدائم لاكتشاف أسرار المادة، لا طمعا في الكنز، بل شغفا بفهم ما يجعل الكون على ما هو عليه.