اقتصاد

الذهب يزداد لمعاناً وسط عواصف الاقتصاد الأمريكي

كريترنيوز/ متابعات /روبرت أرمسترونغ

بعد الحديث عن تجاهل الأسواق لهجوم ترامب على مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وجّه عدد من القراء انتقادات بإغفال سوق رئيس. وعلق أحدهم متسائلاً: «هل يعقل أن نستبعد الذهب والفضة من تعريفنا لـ «السوق»؟ فالمعادن الثمينة وأسهم شركات التعدين لم تتجاهل بالتأكيد الهجوم الأخير على الفيدرالي».

وكنا قد أشرنا بالفعل إلى الارتفاع الحاد في أسعار الذهب الذي تجاوز الآن حاجز 3.500 دولار للأونصة، لكن القارئ محق في أننا لم نعطِ الأمر ما يستحقه من اهتمام كافٍ. وهذا، في الحقيقة، انعكاس لأحد الانحيازات الراسخة.

فمن خلال تكويني المهني، أنتمي إلى مدرسة «التدفقات النقدية المستقبلية المخصومة»، التي تميل بطبيعتها إلى إهمال الأصول «الخاملة» التي لا تدر عائداً — مثل الذهب والأعمال الفنية والبتكوين وغيرها.

ومع ذلك، يمكن القول إن ثمة حجة قوية تدعو لإعادة النظر: ففي الوقت الذي تتجاهل فيه أكبر فئات الأصول المدرة للتدفقات النقدية هشاشة الوضع المالي الأمريكي، وتباطؤ الاقتصاد، وحملة إدارة ترامب على الاحتياطي الفيدرالي، نجد أن الذهب يظهر يقظة لافتة ويستجيب لهذه المخاطر بوضوح.

وهناك أسباب عدة مباشرة تقف خلف الانتعاش الأخير للذهب. أولها، ببساطة أن الدولار يواصل التراجع (رغم أنه ارتفع قليلاً)، والذهب مسعر بالدولار. وبقدر ما يعكس ضعف الدولار مخاوف بشأن القوة المالية والمؤسسية للولايات المتحدة، فإن آلية انتقال التأثير إلى الذهب تكون عندها في منتهى البساطة.

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ يشير «دين كورنت»، وهو استراتيجي في شركة «ماكرو ريسك أدفايزرز»، إلى أن الذهب يرتبط بعلاقة إيجابية مع مؤشر «فيكس» لتقلبات الأسواق، وهي علاقة منطقية إذا اعتبرنا أن الذهب يرتفع مع تصاعد الإحساس بالمخاطر. وخلال الأيام الأخيرة، بدأ مؤشر فيكس، رغم بقائه عند مستويات متدنية، في إظهار بعض الارتفاع.

واستناداً إلى الاتجاهات الأخيرة، يبدو أن الذهب يتمتع بوضعية فريدة تؤهله للاستفادة من بيئة يتراجع فيها الدولار وتزداد فيها تقلبات أسواق الأسهم. ومع ذلك، فإن هذا العامل وحده لا يمكن أن يفسر قفزة الذهب من 2.000 إلى أكثر من 3.500 دولار خلال عام ونصف فقط. وأذكر أنني سئلت في وقت ما من عام 2023 أو أوائل 2024: إذا تجاوز الذهب عتبة 2.200 دولار، ألن تبدأ الأسعار المرتفعة في تقويض الطلب، لا سيما من قبل المشترين الأفراد الحساسين للأسعار في آسيا؟ وقد ثبتت صحة ذلك جزئياً. لكن ما أغفله هذا التحليل آنذاك، هو أن هؤلاء المشترين الحساسين للأسعار لم يعودوا عاملاً رئيسياً في تحديد أسعار الذهب. وتشرح لينا توماس من بنك «غولدمان ساكس» ذلك في مذكرة نشرت أخيراً قائلة: هناك فئتان من المشترين:

الأولى هي فئة «المشترين عن قناعة» – مثل صناديق المؤشرات المتداولة والبنوك المركزية، والمضاربين — وهؤلاء يشترون الذهب بغض النظر عن السعر. أما الفئة الثانية فهي «المشترون الانتهازيون» – مثل عدد كبير من الأسر في الأسواق الناشئة – وهم يدخلون السوق فقط عندما تكون الأسعار مناسبة. والمشترون عن قناعة يخصصون استثماراتهم في الذهب بناءً على رؤى كلية أو استراتيجيات تحوط من المخاطر، وتدفقات الشراء التي تحركها هذه القناعات هي التي تحدد اتجاه الأسعار.

في المقابل، فإن المشترين الانتهازيين يشترون عند الانخفاض ويتراجعون عند الارتفاع، ما يجعلهم عاملاً مساعداً في امتصاص تقلبات الأسعار، لكنهم لا يقودون الاتجاه السعري. وبالتالي، فإن «المشترين عن قناعة» هم من يحددون اتجاهات السوق.

ويظهر تقرير الطلب العالمي على الذهب الصادر عن مجلس الذهب العالمي للربع الثاني من العام، مدى قوة دخول هذه الفئة – لا سيما صناديق المؤشرات الذهبية – إلى السوق خلال النصف الأول من هذا العام.

وهناك سبب آخر يدعو للاعتقاد بأن المستثمرين باتوا يرون أن أسعار الذهب ستبقى مرتفعة لفترة طويلة: فخلال العام الجاري، اندفع المستثمرون بقوة نحو شراء أسهم شركات تعدين الذهب أيضاً، بعدما ظلت أسهم شركات التعدين خارج موجة الصعود الأولى التي شهدها المعدن النفيس، إذ يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تتمكن شركات التعدين من زيادة إنتاج الذهب، وبالتالي، إذا كنت تعتقد أن ارتفاع الأسعار سيكون قصير الأجل، فلن يكون شراء أسهم شركات التعدين خياراً مجدياً. وبالفعل بدأت أسعار أسهم هذه الشركات الآن تعكس توقعات باستمرار ارتفاع أسعار الذهب لسنوات مقبلة. ويبقى السؤال الأهم: لماذا شهد الذهب قفزة هائلة خلال الأسابيع الأخيرة؟

وفقاً لتحليل آكاش دوشي من شركة «ستيت ستريت» لإدارة الاستثمارات، فإن ذلك يمكن تفسيره بظاهرة «انحدار منحنى العائد»، فأسعار الفائدة قصيرة الأجل بدأت في التراجع، ما يعني أن تكلفة الفرصة البديلة للاحتفاظ بالذهب بدلاً من النقد أصبحت أقل. وفي الوقت نفسه، ظلت أسعار الفائدة طويلة الأجل مرتفعة بفعل المخاوف من التضخم — وهي مخاوف تزيد من جاذبية الذهب أيضاً.

وعلى نحو أوسع، يقول دوشي إن الذهب يعد «أصلاً للتحوط من المخاطر وتنويع المحافظ»، وهو أكثر حساسية تجاه المخاطر المتصاعدة – خصوصاً تلك المرتبطة بالسياسة المالية والنقدية – مقارنة بالأصول الأكبر والأكثر سيولة مثل الأسهم والسندات. ويضيف في هذا السياق: «الذهب يطلق إنذاراً بشأن ديون الولايات المتحدة والدولار الأمريكي، وهي إشارات لا تلتقطها الأصول الأخرى».

هناك جهة أخرى كبرى أسهمت في زيادة الطلب على الذهب خلال السنوات الأخيرة هي البنوك المركزية. ورغم أن مجلس الذهب العالمي أشار إلى تباطؤ عمليات الشراء المعلنة من قبل البنوك المركزية خلال النصف الأول من هذا العام، فإن الاتجاه طويل الأجل نحو المزيد من الشراء يبدو واضحاً – وهو ما تبرزه تقديرات للينا توماس من بنك غولدمان ساكس. وتعتمد هذه التقديرات على بيانات الجمارك البريطانية، نظراً لأن المملكة المتحدة تحتضن أكبر سوق لتداول الذهب الفعلي في العالم.

ومن المنطقي أن تؤدي تحركات ترامب الأخيرة ضد الاحتياطي الفيدرالي إلى دفع البنوك المركزية الأخرى نحو تنويع احتياطياتها بعيداً عن الدولار الأمريكي، والاتجاه أكثر نحو الذهب. ومن سيكون أكثر وعياً بمخاطر «البنك المركزي الأسير» من المصرفيين المركزيين أنفسهم؟

زر الذهاب إلى الأعلى