صدفة أم علم.. كيف نهضت الصناعة في أمريكا عبر التاريخ؟

كريترنيوز /البيان/إعداد – موسى علي
أصبح تعزيز إعادة التصنيع في الاقتصاد الأمريكي شرطاً أساسياً تقريباً لرؤساء الولايات المتحدة وأعضاء الكونغرس في الوقت الحاضر، فكما يتصور الرئيس الحالي دونالد ترامب، على غرار سلفه جو بايدن، عهداً جديداً من الازدهار الصناعي يعيد للأمة مجدها الاقتصادي. غير أن العودة بالزمن إلى عام 1776 تكشف أن هذا الطموح لم يكن دائماً محل إجماع، إذ لم يكن الاقتصادي الشهير آدم سميث، أبو الرأسمالية الحديثة، مؤيداً حتى لفكرة التصنيع الأولي آنذاك.
كتب سميث في كتابه المرجعي “ثروة الأمم” أن تحويل رأس المال بعيداً عن الزراعة إلى الصناعة قد يُعيق الناتج الاقتصادي للولايات المتحدة الناشئة، لكن ألكسندر هاملتون أول وزير للخزانة الأمريكية عارض هذه الرؤية، وإن لم تحظَ سياساته الاقتصادية بدعم واسع داخل الكونغرس في ذلك الوقت.
ورغم هذا التباين في الرؤى، تحولت الولايات المتحدة بمرور الوقت إلى قوة صناعية كبرى، لكن دراسة جديدة صادرة عن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية (NBER) نشرت “بلومبيرغ” مضمونها تكشف أن هذا التحول لم يكن ثمرة تخطيط اقتصادي شامل، بل جاء إلى حد كبير بالصدفة، وتشير الدراسة إلى أنّ التجارب التاريخية الأمريكية تحمل اليوم دروساً مهمة لصانعي السياسات الساعين إلى تعزيز القاعدة الصناعية مجدداً.
ووفقاً للبحث الذي أعده جوشوا روزنبلوم، أستاذ الاقتصاد بجامعة ولاية أيوا، فإن التعريفات الجمركية، رغم أنها لم تُطرح آنذاك كأداة سياسية استراتيجية، ساهمت في إرساء قاعدة لصناعة النسيج في أوائل القرن التاسع عشر، كما كان للدعم الحكومي دور محوري في ترسيخ بعض الصناعات، مثل إنتاج الأسلحة النارية، رغم أن ذلك لم يكن ضمن برنامج اقتصادي منظم.
وأوضح روزنبلوم أن التجربة الأمريكية المبكرة تُظهر أهمية عناصر أخرى إلى جانب الحماية الجمركية، أبرزها جلب المواهب البشرية من الخارج، والاستفادة من المنافسة المحلية، التي دفعت الصناعات الناشئة إلى التطور تدريجياً.
عامل حاسم
الحروب شكّلت عاملاً حاسماً في تسريع مسار التصنيع، ففي عام 1807، ومع تصاعد التوترات مع المملكة المتحدة وفرنسا، فرض الكونغرس الأمريكي حظراً تجارياً منع السفن الأمريكية من التعامل مع أوروبا، الأمر الذي وفر “حماية شبه كاملة” للصناعات المحلية، وخاصة صناعة النسيج، لتتوسع بشكل غير مسبوق. وجاءت حرب 1812 مع بريطانيا لتعزز هذه الظروف، مما سمح بترسيخ قاعدة صناعية أولية.
ومع نشوء صناعة النسيج الأمريكية، دافعت بطبيعة الحال عن استمرار الحماية التجارية، وهو ما تحقق على المدى الطويل، لكن هذه الحماية أدت أيضاً إلى مشكلات في الجودة، حيث فشل المنتجون الأمريكيون في منافسة الأقمشة الأوروبية داخل الأسواق الخارجية، مثل السوق الكندية. ومع ذلك، وفّرت هذه الصناعة أرضية خصبة لتطوير مهارات بناء الآلات، التي أثبتت لاحقاً أهميتها في دفع عجلة الثورة الصناعية الأمريكية.
الصناعات العسكرية لعبت دوراً لا يقل أهمية، فقد أنشأت الحكومة الأمريكية مستودعات للأسلحة في تسعينيات القرن الثامن عشر، ساهمت في تحفيز الابتكارات الكبرى بمجال التصنيع، مثل إدخال تقنيات القياس المتطورة واستخدام أنظمة المقاييس الدقيقة للأجزاء الفردية، مما أدى إلى ابتكار مفهوم “قطع الغيار القابلة للتبديل”، الذي شكّل نقلة نوعية في عالم الإنتاج الصناعي.
كما ساعد “نقل التكنولوجيا” من المملكة المتحدة، بفضل اللغة المشتركة وتدفق المهاجرين البريطانيين ذوي الخبرة الميكانيكية، على تسريع عملية بناء القاعدة الصناعية الأمريكية، وأسهم ذلك في بروز صناعة النسيج وصناعة الأسلحة كنواتين أساسيتين لتطور الاقتصاد الأمريكي.
وبحلول عام 1870، كانت الولايات المتحدة قد أصبحت مهيأة للانطلاق في ما يُعرف بالثورة الصناعية الثانية، التي تمحورت حول تطبيقات الكهرباء ومحركات الاحتراق الداخلي، وأرست الأساس لمرحلة جديدة من النمو الاقتصادي العالمي.
النموذج الأمريكي
وتُظهر المقارنة التاريخية أن النموذج الأمريكي في القرن التاسع عشر يختلف جذرياً عن تجارب لاحقة شهدها القرن العشرون، مثل الأرجنتين ودول أخرى أقامت حواجز حماية تجارية عالية دون أن تحقق التنمية المرجوة. ويرى روزنبلوم أن سر نجاح التجربة الأمريكية تمثل في وجود عدد كبير من المنافسين المحليين، ما خلق بيئة تنافسية دفعت الصناعات إلى الابتكار والتطور، حتى في ظل الحماية الجمركية.
ويخلص البحث إلى أن تجربة الولايات المتحدة قبل قرنين من الزمن تحمل رسائل معاصرة مفادها أنّ مستويات عالية من الحماية والدعم الحكومي يمكن أن تنجح في إنشاء قاعدة صناعية، شرط أن تُقترن بمنافسة محلية حقيقية وتشجيع الابتكار المستمر.