الإغلاق الحكومي الأمريكي يجمّد الأرقام.. والأسواق تكسر الصمت
وسط حالة من الغموض تكتنف آفاق أكبر اقتصاد في العالم

كريترنيوز/ متابعات /محمد خالد/القاهرة
محللون أمريكيون لـ« البيان »:
الإغلاق تشويش سياسي عابر.. والأسواق تركز على النمو الهيكلي في الذكاء الاصطناعي
«وول ستريت» تعيش على الزخم.. وغياب البيانات يجعل اجتماع «الفيدرالي» أكثر صعوبة
طول الإغلاق يخدم الأسواق.. والزخم الصاعد في المؤشرات مدفوع بتفاؤل المستثمرين
يُضيف الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة الأمريكية حالة من الغموض، التي تكتنف آفاق أكبر اقتصاد في العالم، في ظل السياسات التجارية والمالية، التي ينتهجها الرئيس دونالد ترامب، وما تخلفه من آثار تمتد عبر الأسواق العالمية، وبينما تتزايد المخاوف والتساؤلات حول مسار التضخم وأسعار الفائدة واتجاهات السياسة النقدية للفيدرالي الأمريكي يجد المستثمرون أنفسهم أمام مشهد اقتصادي مشحون بالتقلبات، ومفتوح على كل الاحتمالات.
تتابع الأسواق العالمية هذه التطورات عن كثب، مع تصاعد المخاوف من أن يطول أمد الإغلاق، الذي شل قطاعات حكومية حيوية، وحرم الاقتصاد من صدور بيانات رئيسية مثل تقرير الوظائف الشهري، الذي يعد مؤشراً أساسياً على متانة الاقتصاد الأمريكي.
يعكس فشل الحزبين الجمهوري والديمقراطي في التوصل إلى اتفاق بشأن الموازنة أو سقف الإنفاق العام عمق الانقسام السياسي في واشنطن، وما يترتب عليه من ضبابية في توقعات النمو والاستقرار المالي، خلال الأشهر المقبلة، لاسيما أن تقديرات البيت الأبيض تشير إلى خسائر أسبوعية تقدر بـ15 مليار دولار، بسبب الإغلاق.
ورغم تعقد المشهد السياسي أظهرت مؤشرات وول ستريت قدرة لافتة على تجاهل تداعيات الإغلاق الحكومي، إذ واصلت الأسهم الأمريكية تسجيل مستويات قياسية – محققة مكاسب الأسبوع الماضي – مدفوعة بتفاؤل المستثمرين بنتائج الشركات الكبرى وآمال خفض الفائدة.
في المقابل، استفادت أصول أخرى من حالة القلق السائدة، وعلى رأسها الذهب الذي واصل دوره التاريخي ملاذاً آمناً يجذب المستثمرين، ليسجل ارتفاعات ملحوظة مع تزايد مخاطر الإغلاق وتراجع الثقة بالدولار الذي واصل مساره الهابط، كما لقيت العملات المشفرة، وفي مقدمتها «بيتكوين»، دعماً مماثلاً مع تنامي الرغبة في تنويع المخاطر بعيداً عن الأصول التقليدية.
تحليل الأثر الفوري
يستعرض المؤسس وكبير استراتيجيي الاستثمار في شركة Successful Portfolios، باركر إيفانز، في تحليل خص به «البيان» الأثر الفوري لإغلاق الحكومة الأمريكية على الأسواق.
أولاً، فيما يتعلق بالأسهم فإن التأثير –في تقديره- محايد إلى حد كبير؛ فقد اعتادت الأسواق النظر إلى حالات الإغلاق الحكومي مسرحية سياسية قصيرة الأجل أكثر منها تهديداً اقتصادياً جوهرياً، خصوصاً عند مقارنتها بالعوامل الرئيسية المؤثرة مثل سياسة الاحتياطي الفيدرالي وأرباح الشركات.
وفي سياق متصل، يوضح أن الإشارة الحقيقية، التي تستحوذ حالياً على اهتمام ورؤوس أموال السوق، فهي مسألة النمو الهيكلي الممتد لسنوات في مجال بناء البنية التحتية للذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، يعد الخلاف السياسي قصير الأمد في واشنطن مجرد تشويش عابر في الوقت الراهن، على حد وصفه.
وتجاهلت «وول ستريت» تأثير الإغلاق الحكومي، إذ يرى المستثمرون أن هذه الحالة تكررت من قبل، وينظر إليها كونها ضجيجاً سياسياً مؤقتاً بلا تأثير اقتصادي دائم.
سجل مؤشر داو جونز الصناعي مكاسب أسبوعية 1.1 % وصولاً إلى النقطة 46,758.28، كما ارتفع مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بنسبة 1.09 % إلى مستوى 6,715.79 نقطة، وارتفع مؤشر ناسداك المركب -الذي تهيمن عليه أسهم التكنولوجيا- بنسبة 1.32 % إلى 22,780.506 نقاط.
وكذلك صعد مؤشر راسل 2000 للشركات الصغيرة بنحو 2 % خلال الأسبوع، في الوقت الذي تشعر فيه الأسواق ببعض الثقة – الناتجة عن تجارب الإغلاقات السابقة – في أن تداعيات الإغلاق الحكومي لن تكون طويلة الأمد.
أما بالنسبة للدولار فيقول إيفانز: «إن تأثير الإغلاق يميل إلى السلبية الطفيفة، على اعتبار أن المشهد العام لإغلاق الحكومة قد يضعف مؤقتاً الصورة الذهنية للدولار عملة مستقرة وموثوقة عالمياً».
ويشار إلى أن مؤشر الدولار – الذي يقيس أداء العملة الأمريكية مقابل سلة عملات رئيسية – متراجع بنحو 10 % منذ بداية العام الجاري.
أما لجهة «الذهب» فيشير إيفانز في تحليله إلى أن النظرة إيجابية «اتجاه صعودي»، فالمعدن الأصفر يُعد ملاذاً آمناً تقليدياً في فترات عدم اليقين السياسي، كما أن دوره كونه بديلاً غير سيادي للدولار يتعزز بصورة هيكلية بفضل التكنولوجيا، إذ تجعل عملية الترميز على شبكات البلوكشين هذا الأصل أكثر سيولة وسهولة في التداول عالمياً.
وواصل الذهب تحطيم مستوياته القياسية، متجاوزاً الـ4000 دولار للأونصة مع توجه المستثمرين إليه ملاذاً آمناً، في ظل الإغلاق الحكومي، وحالة عدم اليقين الاقتصادي.
وفي السياق، استفادت أصول أخرى من تداعيات الإغلاق، بما في ذلك الأصول عالية المخاطر؛ وعلى رأسها العملات المشفرة، التي أضافت الأسبوع الماضي إلى قيمتها السوقية أكثر من 400 مليار دولار – وفق حسابات «البيان»- مع اختراق «بتكوين» أخيراً حاجز الـ 125 ألف دولار.
غياب البيانات
بينما كان التأثير الأكثر بزوغاً هو أثر الإغلاق – الذي بدأ في الأول من أكتوبر- على البيانات الاقتصادية، والتي يهدد غيابها قرارات الفيدرالي الأمريكي التي تراقبها الأسواق.
تشمل تلك البيانات بيانات الوظائف لشهر سبتمبر، التي كان من المقرر صدورها بنهاية الأسبوع الماضي، فضلاً عن بيانات مؤشر أسعار المستهلكين لشهر سبتمبر المرتقبة، والمقرر نشره في 15 أكتوبر.
الرئيس التنفيذي والمؤسس لشركة First Information، فينس ستانزيوني، يقول لـ«البيان»، إن «الأسواق ظلت هادئة بشكل لافت»، منبهاً إلى أن وول ستريت «تمر بمرحلة مدفوعة بالزخم، حيث عمليات الشراء تولد مزيداً من الشراء، مع تجاهل شبه تام للأساسيات، لكن هذا الاتجاه سينتهي في النهاية، وستعود الواقعية إلى المشهد».
ويشير إلى أحد تداعيات الإغلاق والمرتبط بعدم صدور بيانات البطالة والوظائف الخاصة بشهر سبتمبر، التي كان من المقرر صدورها الجمعة الماضي عن مكتب إحصاءات العمل، قائلاً: «نحن نعتمد الآن على بيانات بديلة، بما في ذلك مصادر خاصة مثل تشالنجر.. وفي ضوء ذلك فإن الاجتماع المقبل للجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة في نهاية الشهر سيكون صعباً في ظل غياب البيانات الحكومية».
ويستطرد: «ليس من الجيد أن تعتبر الولايات المتحدة صاحبة أقوى اقتصاد في العالم، بينما تعجز عن نشر إحصاءات موثوقة في الوقت المحدد، وفيما كانت أرقام التوظيف الأمريكية موضع تساؤل بالفعل، بسبب التعديلات الكبيرة، الآن لا نملك شيئاً سوى التخمين، وعندما تصدر أرقام التوظيف التالية ستكون مشوهة بشدة بسبب الإغلاق الحكومي، الذي أدى إلى تسريح أكثر من 750 ألف موظف مؤقتاً».
فترة إغلاق أطول
وفي ضوء فشل الحزبين في التوصل إلى اتفاق، ومع استمرار الخلافات الحادة حول أولويات الإنفاق الحكومي، يتوقع أن يستمر الإغلاق الحكومي – وهو الأول منذ سبع سنوات تقريباً- لفترة أطول مما كان يُعتقد في البداية، خصوصاً في ظل تمسك كل طرف بموقفه السياسي، ومحاولته تحميل الطرف الآخر مسؤولية الشلل المؤسسي، الذي أصاب واشنطن.
وتشير تقديرات بنك مورجان ستانلي، استناداً إلى تسعيرات الخيارات على سندات الخزانة الأمريكية، إلى أن الإغلاق الحكومي من المرجح أن يستمر ما لا يقل عن 10 أيام، وقد يمتد حتى 29 يوماً.
في هذا السياق، يقول الرئيس التنفيذي لشركة Global Advisers، ستيفن كوفاتش لـ«البيان»، إن الإغلاق الحكومي الأمريكي، بخلاف الإغلاقات السابقة، قد يستمر لفترة أطول، مردفاً: «المفارقة أن طول مدة الإغلاق قد يكون في مصلحة الأسواق المالية، لأنه سيزيد من احتمالات خفض الفائدة في المستقبل».
ويضيف: «لم تتجاهل وول ستريت تداعيات الإغلاق الحكومي بل استغلت حقيقة أن هذا الإغلاق قد يمهد لخفض أسعار الفائدة، وهو ما يعد بيئة مثالية لارتفاع الأسهم»، مشيراً إلى أن مكاسب المؤشرات الأمريكية الأسبوع الماضي «تعكس الزخم المستمر للسوق الصاعدة، خصوصاً في قطاعات الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات والتكنولوجيا بشكل عام، ويعود ذلك إلى أرباح قوية، وأرقام تضخم مشجعة، وتوقعات بخفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي».
أما فيما يخص الذهب الفوري فقد تجاوز مستوى 4000 دولار للأونصة، ومن المرجح أن يبلغ 5000 دولار في العام 2026، مدفوعاً بالاتجاه نحو الأصول الآمنة وتراجع أسعار الفائدة، كما يتوقع أن تسجل الأصول عالية المخاطر – إلى جانب القطاعات المذكورة – مثل «بتكوين» و«إيثر» مستويات قياسية جديدة أيضاً.
اختبار ثقة
وتعد التطورات الراهنة بمثابة «اختبار ثقة» لأكبر اقتصاد في العالم، إذ يرزح تحت وطأة عديد من التحديات المفصلية.
يقول المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة Optimist Capital، ألكسندر كوك لـ«البيان»: «إنه من الناحية الداخلية (داخل الولايات المتحدة)، لا يوجد تغير كبير في الوقت الحالي.
هناك عاملان رئيسيان يدفعان اقتصادنا الآن: خفض أسعار الفائدة الأخير والتضخم الجامح».
ويلفت إلى أن «الأسواق عادة تتأخر في الاستجابة، وتظل غير عقلانية لفترة أطول مما يتمنى المستثمرون، لذا لن نرى على الأرجح تصحيحاً أو هبوطاً في الأسواق ما لم يطل أمد الإغلاق فعلاً، وتقتنع الأسواق بأن الأطراف السياسية غير قادرة على التوصل إلى اتفاق».
أما بالنسبة للأسواق والأصول عالية المخاطر تحديداً فيضيف كوك: «ما زلنا نرى مستويات قياسية في الوقت الراهن، مدفوعة في الأساس بالتضخم، إذ إن الطريقة المعتادة للتغلب على التضخم هي الاستثمار في الأسهم والأصول ذات المخاطر المرتفعة»، بينما الدولار فله وضع مختلف؛ إذ تراجعت قيمته عالمياً بأكثر من 10 % منذ بداية العام، ويرى أن ذلك يرتبط مباشرة بعدم إدراك الإدارة الحالية لحقيقة أن الولايات المتحدة جزء من اقتصاد عالمي «لا يمكن أن نعزل أنفسنا عنه»، موضحاً أن الإغلاق الحكومي بحد ذاته ليس المشكلة بالنسبة للدولار، لكنه عامل إضافي قد يزيد الأمور سوءاً إذا استمر الإغلاق حتى نوفمبر.
وأخيراً فإن ما يُعرف بـ«مخازن القيمة» مثل الذهب وبتكوين تشهد ارتفاعات كبيرة، ومن المرجح أن تواصل الصعود مع وصول مستويات المخاطر إلى نقطة الغليان.
ويشير إلى أن البتكوين على وجه الخصوص يبدو أنه يستفيد من ضعف الدولار، أي أن رؤوس الأموال بالدولار تتجه إلى العملة الرقمية كونها وسيلة لتفادي تآكل قيمته، أما الذهب فيُظهر التأثير نفسه تقريباً، لكن وضع البتكوين أكثر إثارة للاهتمام لكونه يتيح تحويل الأموال إلى خارج الولايات المتحدة بسرعة، وهو ما لا يستطيع الذهب القيام به.
مشكلة سياسية
من جانبه، يقول آشر روغوفي، رئيس قسم الاستثمار في Magnifina لـ«البيان»، إن «إغلاقات الحكومة مشكلة سياسية أكثر منها مالية»، مقللاً من التداعيات الاقتصادية المباشرة على الأسواق.
وعادة ما تكون القطاعات الأكثر تأثراً بالإغلاقات الحكومية هي تلك التي تعتمد بشكل مباشر على الإنفاق الفيدرالي أو التعاقدات الحكومية، بينما القطاع المالي فيشهد عادةًتقلبات محدودة، لكن أسهم الشركات الصغيرة، التي تعتمد على الطلب المحلي قد تشهد ضغطاً أكبر، خصوصاً إذا طال أمد الإغلاق وأثر على ثقة المستهلكين والإنفاق العام، لكن حتى الآن لم يظهر عملياً تأثر ملحوظ لأسهم الشركات الصغيرة في «وول ستريت» في ظل تسجيل مؤشر «راسل 2000» أعلى مستوى قياسي.