الرئيسيةتحقيق

حصانة المحور.. عندما يُصبح المطلوب الأول صانع القرار في تعز اليمنية

كريتر نيوز/تحقيق: هشام صويلح

 

في الوقت الذي شدد فيه محافظ تعز نبيل شمسان خلال اجتماع أمني موسع، الأحد 28 سبتمبر 2025، على ضرورة إعداد قائمة دقيقة بأسماء المطلوبين أمنياً وسرعة القبض عليهم، كان المشهد يزداد عبثاً بعدما جلس في القاعة ذاتها اللواء خالد فاضل، قائد المحور العسكري، الذي تلاحقه منذ أعوام أوامر قبض قهرية صادرة من النيابة العسكرية. صورة تختصر أزمة المدينة: السلطة تعلن إجراءات للقبض على المطلوبين، فيما المطلوب الأول حاضر يشارك في رسم تلك الإجراءات.

 

 

أوامر قضائية بلا تنفيذ

 

منذ ثلاث سنوات، أصدرت النيابة العسكرية بالمنطقة العسكرية الرابعة في عدن أكثر من أمر قبض قهري بحق اللواء خالد فاضل وقائد الشرطة العسكرية السابق محمد سالم الخولاني، على خلفية اتهامات باقتحام منازل قيادات المقاومة في الحجرية ونهب أسلحة وترويع أسر. الشكوى التي قدمها القيادي فؤاد الشدادي ضد فاضل وزميله أُحيلت إلى النائب العام ثم إلى النيابة العسكرية، لكن التنفيذ ظل معلقاً بين تعز وعدن، فيما استمر فاضل في موقعه على رأس المحور العسكري.

 

محامو الشدادي تحدثوا عن جهود قانونية متواصلة لتجديد أوامر القبض ومنع السفر، وأكدوا أن الملف لم يسقط وأن التعميم باسمي المطلوبين أُرسل إلى المنافذ الجوية والبرية والبحرية. ورغم ذلك، بقي التنفيذ حبراً على ورق، ما دفع مصادر قانونية إلى وصف تجاهل الامتثال بأنه “تمرد صريح على الدولة والقضاء”.

 

 

جرائم تتكاثر

 

 

في موازاة ذلك، انفجرت فضائح أخرى ارتبطت باسم أسرة قائد المحور. ففي يونيو 2024، أقدم فاروق فاضل، شقيق اللواء خالد، على قتل مواطن أعزل يدعى محمد عبدالجليل الراشدي بعد أن اختطفه من أمام المسجد. جريمة نُفذت بسلاح الدولة وعلى مرأى من سكان مديرية جبل حبشي. بعدها بأسابيع، هاجم الرجل نفسه منزل صحفي في المدينة مستخدماً أسلحة خفيفة ومتوسطة.

 

ورغم صدور أوامر قضائية بالقبض على فاروق فاضل، بقي يتنقل على أطقم عسكرية تابعة للمحور، ما أثار سخطاً واسعاً. النيابة الجزائية المتخصصة في تعز أعلنت في يناير 2025 أنه متهم رسمي باختطاف وقتل الراشدي، ودعت لاتخاذ الإجراءات لمحاكمته غيابياً، بعد فشل الأجهزة الأمنية في القبض عليه. الإعلان زاد من الغضب الشعبي، إذ رأى ناشطون أن العدالة تُختطف عندما يكون الجاني محمياً بغطاء سلطة نافذة.

 

الجريمة لم تكن الأخيرة؛ ففي منتصف سبتمبر 2025 أطلق فاروق النار على سيارة مدنية تقل رجلاً وامرأتين، فأصاب المواطن محمد عبدالجليل مهيوب بجروح خطيرة توفي على إثرها. تكرار الجرائم بالطريقة نفسها كشف أن الحصانة الممنوحة بحكم القرابة مع قائد المحور شجعت على التمادي في الانتهاكات.

 

 

أصوات غاضبة

 

 

الشارع في تعز لم يعد يكتفي بسرد الوقائع، بل يرفع أصواتاً تطالب بالتحرك. الناشط معتز الأعرج قال إن بقاء فاروق فاضل طليقاً يعود إلى الوساطات التي يقودها شقيقه، مؤكداً أن الحصانة التي يتمتع بها جعلته يتطاول في الجرائم حتى وصل الأمر إلى انتهاك الأعراض.

 

ماجد علي ذهب أبعد حين اعتبر أن “خالد فاضل هو الداعم الأكبر للعصابات والقتلة، وإذا تم توقيف الرأس الكبير ستنكشف كل الحقائق وما وراء الكواليس”.

 

في السياق ذاته، طالب نبيل عبد ناصر وزير الدفاع بإصدار مذكرة توقيف رسمية بحق قائد المحور وإحالته للتحقيق، قائلاً: “كفى عبث”. أما شهاب المحيا فعبّر بحدة: “يحبسوا خالد فاضل ويقيلوه من منصبه.. وأخوه بترتفع عنه الحصانة الإجرامية”.

 

هذه الأصوات تعكس مزاجاً عاماً لم يعد يقبل المراوغة، إذ يرى المواطنون أن أي إصلاح أمني يبدأ من كسر الحصانة التي تحيط بقيادات نافذة.

 

 

بين الأمن والسياسة

 

 

ما يزيد المشهد قتامة أن الحوادث الأمنية تتقاطع مع الحسابات السياسية داخل تعز. اللواء خالد فاضل محسوب على حزب الإصلاح، الذي يملك نفوذاً عسكرياً واسعاً في المدينة. خصومه يتهمونه بتوظيف موقعه لتمكين جماعته، فيما يرى أنصاره أن استهدافه محاولة لإضعاف وجود الحزب.

 

لكن المؤكد أن بقاء أوامر القبض القهرية معطلة طوال هذه السنوات يعكس مزيجاً من الفشل والانتقائية، إذ تُنفذ الأوامر ضد مواطنين عاديين بسرعة، بينما تُعلق عندما تطال أسماء كبيرة. هذا التمييز يضعف ثقة الناس بالقضاء، ويحول القانون إلى أداة انتقائية بيد القوى المتصارعة.

 

 

مأساة عائلات الضحايا

 

 

عائلة الراشدي، الضحية الأولى لفاروق فاضل، ما تزال تحتفظ بجثمانه في ثلاجة المستشفى منذ يونيو 2024، بانتظار أن تقول العدالة كلمتها. المشهد أصبح رمزاً لتجمد القانون؛ جثمان لا يُدفن لأن القاتل لم يُحاسب، وعدالة متوقفة أمام نفوذ السلاح.

 

ذوو الضحية أكدوا أن وساطات عدة عُرضت عليهم من قبل شخصيات نافذة لتسوية القضية بدفع الدية، لكنهم رفضوا التنازل، وأصروا على محاكمة عادلة. رفضهم مثّل تحدياً لشبكة النفوذ التي اعتادت شراء الصمت، لكنه جعل العائلة في مواجهة ضغوط هائلة وتهديدات متواصلة.

 

 

غضب في الشارع

 

 

على مواقع التواصل، تحولت قضية فاروق فاضل إلى رمز للفوضى في تعز. ناشطون أطلقوا حملات إلكترونية تحت وسوم تطالب بالقبض عليه، معتبرين أن أي تساهل في هذه القضية يعني تشجيع جرائم جديدة. البعض استعاد حوادث سابقة مشابهة انتهت بتسويات قبلية أو دفع ديات، ما جعلهم يؤكدون أن العدالة لا تتحقق إلا بمواجهة رأس المشكلة: موقع القائد العسكري وحصانته.

 

 

اجتماع الأمن الأخير: صورة العبث

 

 

عودة إلى اجتماع اللجنة الأمنية في 28 سبتمبر 2025، حيث كان المحافظ نبيل شمسان يشدد على تنفيذ خطة نزع السلاح وإخلاء المرافق العامة من المسلحين. اللافت أن اللواء خالد فاضل كان يجلس إلى جواره. المشهد أثار سخرية مريرة في الشارع، إذ علق البعض: “كيف يطالب المحافظ بالقبض على المطلوبين، وأكبرهم يجلس بجانبه؟”.

 

هذا التناقض ألقى بظلاله على مصداقية الخطط الأمنية المعلنة، وجعلها تبدو كبيانات للاستهلاك الإعلامي أكثر من كونها إجراءات جادة.

 

 

تاريخ الإفلات من العقاب

 

 

ليس جديداً على تعز أن تتحول الملفات الجنائية إلى أوراق سياسية. اغتيال اللواء عدنان الحمادي، قائد اللواء 35، قبل سنوات ما يزال يثير تساؤلات، وسط اتهامات بوجود تورط من شخصيات نافذة في المحور. ومع مرور الوقت، أصبحت المدينة سجلاً طويلاً من القضايا المعلقة: منازل منهوبة، اغتيالات بلا تحقيق مكتمل، ومطلوبون يتجولون بحرية.

 

التاريخ الذي يمتد من أول أوامر القبض القهرية إلى اليوم يعكس نمطاً متكرراً: القانون يكتب قراراته، لكن الأرض لها قواعد أخرى.

 

 

نحو أين؟

 

 

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يمكن أن تُنفذ أوامر القبض بحق قيادات نافذة في تعز، أم أن الحصانة ستبقى أقوى من الدولة؟ الإجابة لم تعد تخص عائلة الضحايا فقط، بل مجتمعاً بأكمله يبحث عن أمان مفقود وعدالة غائبة.

 

إذا استمرت الجهات الأمنية في تجاهل القرارات القضائية، فإن الثمن سيكون مضاعفاً: مزيد من الدماء، ومزيد من التآكل في ثقة الناس بمؤسسات الدولة. أما إذا تحركت بجدية، فقد يشكل ذلك بداية مسار جديد، ولو متأخراً، نحو إعادة الاعتبار للقانون.

 

 

 

خاتمة: العدالة كاختبار وجود

 

 

تعز اليوم أمام اختبار وجودي؛ إما أن تنتصر العدالة ويُكسر طوق الحصانة عن القيادات المتورطة، أو تستمر دوامة الإفلات لتبتلع ما تبقى من ثقة الناس. بقاء جثامين الضحايا في الثلاجات، وتكرار الجرائم من أشخاص محميين بسلطة أقاربهم، يكشف أن الأزمة أكبر من حادثة فردية. إنها معركة بين دولة تحاول أن تقوم، ونفوذ يصر على أن يبقى فوق القانون.

 

وفي كل الأحوال، تبقى عيون الناس معلقة على من يجرؤ على كسر هذه الحلقة، ليثبت أن تعز ليست مدينة خارج القانون، بل قادرة على أن تحاسب وتستعيد هيبتها.

زر الذهاب إلى الأعلى