تعرّف على آليات التفاوض في القانون الدولي ..

كريترنيوز / تقرير / د . اسماء أحمد الشقري
يُعدُّ التفاوض تبادلاً للرأي بين شخصين دوليين لتسوية نزاع معين، ويتميّز بالمرونة والسرية والسرعة والاستغلالية.
ويمثل التفاوض وسيلة إلزامية وفقا للقانون الدولي ، وهو ذو طبيعة سياسية في الوقت نفسه . ويطلق على الأشخاص اسم المتفاوضين، وهم يزوّدون بوثائق تمنحهم الصلاحيات المطلقة وتسمى وثائق التفويض التي تدمج بطريقة رسمية خاصة، وهي تحمل طابع الدولة الذي يرمز إلى سيادتها واستقلالها، وتحمل أيضاً توقيعات رئيس الدولة ووزير الخارجية .
ويقدم المندوب وثيقة تفاوضية أي وثيقة صلاحياته إلى الهيئة أو السلطة التي سيتفاوض معها ،ويتأكد كل متفاوض من حيازة المتفاوضين الآخرين على الوثيقة.
وثيقة تفويض ممنوحة :
وثيقة التفويض الممنوحة تخوّل عادة إمكان التفاوض والتوقيع غير أنها تحرمه أحياناً من صلاحية التوقيع وتزوّده بإمكان التفاوض فقط، فإذا وقّع في هذه الحالة متجاوزاً حدود تفويضه فإن توقيعه لا يلزم الدولة التي يتفاوض باسمها في شيء. ولذا فإن للكيفية التي حرّر بها التفويض أهمية كبرى.
والمفاوضات يمكن أن تتم بالطريقة الدبلوماسية العادية فيجتمع الممثلون الدبلوماسيون لدى دولة ما بمندوبي هذه الدولة أو الهيئة، ويناقشون معهم موضوع الخلاف أو الاتفاق، ويدمجون نصها ثم يوقعونها. وقد تتم المفاوضات بطريق المؤتمرات الخاصة التي يدعى إليها مندوبو الدول المتفاوضة، وفي هذه الحالة تنسق أعمال المؤتمر ويوضع لها برنامج أو نظام داخلي توافق عليه الدول المتفاوضة.
وعندما يتجاوز النزاع بأهميته أو حجمه أو خطره حدود الدول المتنازعة ليصبح هماً أو هاجساً مشتركاً لمجموعة دول مشاركة في منظمة دولية فليس مستغرباً أن تقوم تلك المنظمة بعملية احتضان جماعي لمسألة المفاوضات، وهذا ما يسمى بدبلوماسية المؤتمرات أو الدبلوماسية البرلمانية، كما هو الحال في المفاوضات (الحوار السياسي) بين الدولة السورية والمعارضات، حيث قامت الأمم المتحدة بإصدار القرار الدولي رقم 2254 والذي حدّد الخطوط العامة للحلِّ السياسي في سوريا. وتبدأ المفاوضات عادة بدعوة توجِّهُها إحدى الدول إلى دولة أخرى أو أكثر وقد تكون مصحوبة بمشروع اتفاق أو معاهدة أو قد تكون مجرد دعوة لتبادل وجهات النظر حول موضوع معيّن تتم المفاوضة على أساسه، والمسؤول المختص بالمفاوضة هو في الأصل رئيس الدولة، غير أنه اليوم نادراً ما يقوم بهذه المهمة، ويحق لرئيس الوزراء أو وزير الخارجية التفاوض نيابة عن الدولة ودون حاجة إلى إصدار تفويض خاص له من رئيس الدولة، ويجوز أيضاً لأي وزير أو دبلوماسي أو موظف فني مزوّد بتفويض صريح ومكتوب صادر عن رئيس الدولة لتمثيل الدولة في مرحلة المفاوضات.
وتنصُّ المادة السابعة من اتفاقية قانون المعاهدات للعام 1969 على منح رؤساء البعثات الدبلوماسية صلاحية التفاوض مع الدول، يمثلون دولهم لديها دون حاجة إلى تفويض خاص بذلك. كما تنصُّ على منح هذه الصلاحية لممثلي الدول لدى المنظمات الدولية بالنسبة إلى المعاهدات المقترحة في إطار المنظمات المعتمدين لديها، وبالإضافة إلى المرونة فإن المفاوضات يجب أن تتميز بالسرية والكتمان لإبعادها عن التأثيرات الخارجية، وبسرعة الإجراء والإنجاز لتهدئة التوتر الذي ساد العلاقات بين الأطراف. وتبدأ المفاوضات عادةً بعرض كلّ طرف موقفه من جوهر النزاع طارحاً حججه ومايستند عليها ثم يجري البحث عن أرضية مشتركة تصلح منطلقاً لإيجاد نوع من التقارب أو التفاهم المتبادَل. وكثيراً ما تدخل الوعود والضغوط كعوامل للتأثير في أطراف المفاوضات، ويمكن أن ترقى الضغوط إلى التهديد بإلحاق الضّرر والدمار بالطرف الآخر. وقد استخدمت الولايات المتحدة هذا الأسلوب مع فيتنام الشمالية عندما عمدت أثناء المفاوضات إلى شنِّ غارات وحشية بقصد التوصُّل إلى إيقاف الحرب التي كانت وَبَالاً على واشنطن. واستخدمت إسرائيل بعد اجتياح لبنان في عام 1982 هذا الأسلوب خلال المفاوضات التي كان يجريها المبعوث الأمريكي فيليب حبيب من أجل انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت.وإذا كان الغرض الأساسي من دخول المفاوضات هو التوفيق بين المصالح المتضاربة، فإن هناك أمور ومراحل يجب أن تسبق إتمام التوفيق، منها ؛ تحديد طبيعة النزاع وحصر أسبابه والتأكُّد من ملاءمة الظروف لإجراء التفاوض واختيار الوقت المناسب لبدء عملية التفاوض وتهيئة الوثائق والمستندات المتعلّقة بالنزاع ودراستها بجديّة ورزانة قبل بدء المفاوضات.
فالمفاوضات فنٌ له أصوله وقواعده والدول لا تدخل عادة في مفاوضات معينة إلا عند توافر شرطيين أساسيين : وجود نزاع حقيقي ومُلِح حول مسألة محدّدة ووجود مصلحة مشتركة لأطراف النزاع في إيجاد تسوية له. وليس هناك فترة زمنية محدّدة لإنجاز المفاوضات فهي قد تنتهي بسرعة وخلال ساعات أو أيام وقد تطول أحياناً أعواماً. فإنهاء الحرب الكورية في الخمسينات تطلّب عامين من المفاوضات وعقد مئات الاجتماعات. وليس لإجراء المفاوضات شكلاً محدداً لا تستقيم المفاوضات إلا باتّباعه، فالأمر متروك للمتفاوضين، وقد تحصل المشاورات والمباحثات شفهياً، أو تجري كتابة بتبادل المذكرات، وقد يفضل الأطراف الانكباب عليها وإنجازها بمفردهم دون تدخُّل طرف ثالث، أو رؤية عقد مؤتمر دبلوماسي لمعالجة موضوع النزاع على صعيد أوسع. وعلى المفاوض إن كان وفداً أن يكون فريقاً متضامناً متفاهماً ومنسجماً وقادراً على أداء مهمته بروح معنوية عالية، متسلّحاً في كل وقت بقوة الحُجة والإقناع، ومبدياً للطرف الآخر حُسن النية وصدق الرغبة في التوصُّل إلى التسوية المنشودة. ومن مستلزمات النجاح في المفاوضات وضوح الرؤية وتوافر الحِس الوطني وتفضيل المصلحة العامة على الخاصة.
وانتهاء المفاوضات بنجاح يسفر عن إصدار وثيقة (تسمى بياناً مشتركاً) موقّعة من الأطراف تتضمن شروط الاتفاق أو البنود الأساسية للتسوية، ومن الضروري أن يكون المفاوض في هذه المرحلة مزوّداً بتفويض من الهيئات أو الدول التي يمثلها. ولكن ما يجري عادة في مثل هذه الحالات هو اكتفاء المفاوض بإبداء موافقته المبدئية (أو التوقيع بالأحرف الأولى) على الاتفاق الذي تم ، والتعهُّد بعرضه على السلطات المختصّة في دولته. وتنص الدساتير في الدول الديمقراطية على وجوب موافقة البرلمان على المعاهدات التي توقعها السلطة التنفيذية . أما في حال فشل المفاوضات، تصدر الأطراف المعنية منفردة أو مجتمعة بياناً تعترف فيه بالإخفاق، غير أن المتعارف عليه أن تترك الأطراف – إلا إذا كان في نيتها اللجوء إلى الوسائل غير الودية – الباب يظلُّ مفتوحاً لمعاودة التفاوض أو للإفساح لطرف ثالث لتقريب وجهات النظر.
وختاماً وبعد هذا العرض لآلية التفاوض في القانون الدولي، نجد أن المجلس الانتقالي الجنوبي احترم المواثيق الدولية والآليات الدولية للتفاوض من خلال مشاركته في اتفاق الرياض ومشاورات الرياض تعبيراً عن صدق نواياه في إيجاد حلٍّ سلمي لاستعادة الدولة الجنوبية بحدود ماقبل عام ١٩٩٠م.ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه وهو ممّن سوف تأخذ وفود المفاوضات ومَنْ سوف يلتزم بما يتعهدون به إذا حصل اتفاق؟!
إعداد الدكتورة : اسماء أحمد صالح الشقري، مدير عام الدراسات والبحوث القانونية، نائب رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية بالجمعية الوطنية.