معبد الفرس التاريخي والبناء العشوائي.. تحدٍّ بين الماضي والحاضر

كريترنيوز /تقرير / حنان فضل
شهدت مدينة عدن في السنوات الماضية طفرة تاريخية جعلتها ملتقى لجميع الديانات والحضارات، وأصبحت مدينة تاريخية بوجود معالمها الأثرية.
في العدد الماضي تحدثنا عن صهاريج عدن، وكيف أثرت على ملامحها التاريخية العشوائيات والإهمال والتهميش الحاصل فيها من قبل الجهات المعنية.
وفي هذا العدد تطرقنا إلى معبد الفرس، أو مهلكة الفرس كما قيل، أو هناك مسمى آخر وهو برج الصمت، مسميات كثيرة ولكن الموقع الأثري شاهد على تلك الحقبة الزمنية وتاريخها العريق..
وهذا المعلم الحضاري فريد من نوعه، كأنه من القصص الخيالية، بل رواية تبلورت على سفح جبل في مدينة عدن خاصة في كريتر.
معبد الفرس، الاسم الذي يشدك إلى أن تشد الرحال وتستكشف المزيد عنه، من خلال البناء وموقعه الجغرافي، ولكن المؤسف أن تجده محاطاً بالعشوائيات التي أصبحت سبباً في تشويه منظر التاريخ أمامك، وكأن الهواء انقطع عن هذا المكان بسبب الزحف العشوائي.
إليكم روايته عبر المختصة في الآثار الدكتورة زبيدة وجيه لقمان، الباحثة في علم الآثار والتاريخ القديم:
عدن ملتقى الحضارات
قالت الدكتورة زبيدة لقمان: تعد عدن، بموقعها الجغرافي الفريد على مفترق طرق التجارة البحرية بين الشرق والغرب، ملتقى لحضارات متعددة عبر العصور. ومن أبرز معالم النفوذ الأجنبي فيها ظهور أثر يُعرف بـ”معبد الفرس” الذي ارتبط بفترة السيطرة الفارسية على أجزاء من اليمن.
وأضافت : بناه الفرس أو معتنقو الديانة الزرادشتية، ويعد آخر ما تبقى من آثار زرادشت في شبه الجزيرة العربية، وهي ديانة فارسية قديمة وفلسفة ظهرت قبل الإسلام، ومؤسسها (زرادشت) الذي عاش فترة ما قبل الميلاد في مناطق أذربيجان وكوردستان وإيران الحالية، وكانت ديانته كدين رسمي في تلك الفترة للإمبراطورية الفارسية قبل الإسلام. تم بناء البرج على هضبة تتوسط جبل شمسان وتبعد حوالي 200 متر إلى الجنوب من صهاريج الطويلة.
ملتقى الديانات السماوية
وعن كيفية دخول هذه الديانة إلى عدن أوضحت الدكتورة لقمان قائلة: إن من رفضوا اعتناق الإسلام من جزيرة العرب من الزرادشتيين فروا إلى الهند واستقروا هناك، وعندما هاجر الهنود إلى عدن انتقلت الديانة الزرادشتية إليها، وكانوا لا يتجاوزون الـ 120 زرادشتياً.
في عام 1883م أنشأ الفرس معبدهم على جزء علوي لأحد الصهاريج التي تشكل سلسلة صهاريج الطويلة، وعّرف باسم (معبد النار) أو معبد النار المقدسة، وأيضاً بـ Cowasjee Dinshaw Adenwalla، أما برج الصمت المعروف باسم dakhma و dokhma و doongerwadi، فقد أنشئ بغرض التخلص من جثت الموتى، حيث يرى الفرس – خصوصًا الزرادشتيون – أن جثة الميت تكون نجسًا وغير طاهرة، ووفقاً للتقاليد يجب ألا تتعرض عناصر الحياة الثلاثة للتلوث وهي: الأرض (التراب) والنار والماء لهذه النجاسة، لذلك توضع الجثة على قمة البرج بحيث تتعرض للشمس وتكون طعاماً للطيور الجارحة.
وأردفت بالقول: بُني البرج في كريتر بشكل دائري مكون من ثلاث حلقات متداخلة ببعضها البعض، بحيث توضع جثت الرجال داخل الحلقة الكبرى (الخارجية)، وتوضع جثت النساء داخل الحلقة الوسطى، أما جثث الصغار فتوضع في الحلقة الصغرى (الداخلية )، ولا يسمح بالدخول للبرج سوى لفئة خاصة هم حاملو النعش.
بُني البرج من الحجر الشمساني وخلطة البوميس، بينما تم فرش الأرضية بالأحجار الشمسانية المترابطة ببعضها بمادة البوميس القريبة من البرج.
قصة مهلكة الفرس
وهنا تروي القصة: بعد تحلل الجثة وبقاء العظام يتم رمي العظام داخل بئر عميقة تتوسط البرج، هذه البئر تسمى عامياً بـ (مهلكة الفرس) – عملية تحلل الجثة تستغرق أياماً وربما شهوراً، وأحياناً تصل إلى حدود السنة. في بداية شهر سبتمبر من كل عام (بداية العام الفارسي) كانت الطائفة الفارسية تقيم حفلَ عشاءٍ ضخماً يحضره ما يزيد عن 1000 شخص.
وتابعت: قبل استقلال الجنوب بأشهر، في عام 1967م، أشعرت الطائفة الفارسية أنه لن يسمح ببقاء النار المقدسة في عدن. دار جدل واسع، حيث ترى الطائفة الفارسية أن هذه النار الأبدية تحفظ لهم الحياة وتحفظ لهم المجوسية. بعد الاستقلال دار الكثير من الجدل مع السلطات في الدولة الجديدة. وفي 14 نوفمبر 1976 غادرت الطائفة الفارسية عدن على متن طائرة بوينج 707 تابعة للخطوط الجوية الهندية.. أطلق المسؤولون الجنوبيون 21 طلقة مدفعية تحية رسمية لهم، وهي الطلقات التي سمعت في كل أنحاء عدن، ولكن بقي برج الصمت شاهدًا على حقبة زمنية عاشتها مدينة عدن، والتي اتسمت بالتعايش العرقي والديني، وتم تحويل أجزاء من المعبد لاحقًا إلى مسجد أطلق عليه اسم سلمان الفارسي.
وفي ختام التقرير: أما اليوم فقد أصبح هذا الموقع الأثري ساحة للبناء العشوائي والعبث من قبل سماسرة الأراضي، وبيعت أجزاء من الموقع بمبالغ زهيدة، وتم تحويل المكان إلى مجاري لعشوائيات النازحين والمهمشين. كما تم الاعتداء على سور المبنى الأثري (برج الصمت)، واستخدام الحجارة الخاصة بالبرج لبناء مساكن عشوائية..
من خلالكم نتوجه بنداء إلى جميع الجهات الرسمية والمهتمين بضرورة الاهتمام والحفاظ على هذا الموقع الأثري، الذي يمثل جزءًا من تاريخ عدن كمدينة للتعايش السلمي والديني.
إن هذا الموقع ليس مجرد أحجار صامتة، بل هي شواهد حية على تاريخ ترك بصماته في سجل عدن.
ندعو الجميع إلى:
-الإبلاغ عن أي أعمال تخريب أو تهريب للآثار.
-دعم حملات التوعية التي تبرز أهمية التراث والحفاظ عليه.
-التعاون مع الجهات المختصة لترميم وصون هذه الكنوز التاريخية.
فالحفاظ على مواقعنا التاريخية هو حفاظ على هويتنا وتاريخنا ومستقبلنا، فلنتكاثف جميعًا في حماية هذا الإرث العظيم.