من “زكُّو” إلى “الشجرة”.. حكاية المقاهي العدنية بين المجد والحنين والصعوبات والاستمرار

تقرير/ محمود أنيس:
المقاهي الشعبية في عدن السلام والتعايش والتاريخ، ليست مجرد أماكن لاحتساء الشاي أو الجلوس وتناول الوجبات الخفيفه الشعبية، بل هي مساحات للتفاعل الاجتماعي، تبادل الرأي والرأي الآخر والتنوير السياسي والثقافي، والحفاظ على ذاكرة المدينة.
إلا أن في سياقات تتغيّر فيها أنماط الحياة سريعًا، تواجه هذه المقاهي تحديات تجعلها على مفترق طرق بين الاستمرار والتغيّر.
التاريخ والدور التقليدي:
منذ أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه كانت المقاهي الشعبية من أبرز مكونات الحياة في عدن، وأبرز هذه المقاهي هي مقهى زكو ومقهى السّكران ومقهى عبدان في مدينة كريتر، ومقهى الشجرة ومقهى الزحف العربي في مدينة الشيخ عثمان، التي كانت ملتقى للفنانين والمثقفين والسياسيين، ومواقع للنقاشات الفكرية والأدبية والفنية.
وخلال الحقبة الاستعمارية البريطانية، ومع حركات التحرر القومية لاحقًا، لعبت المقاهي دورًا في تشكيل الوعي الوطني، واستضافة الاجتماعات غير الرسمية، وتبادل الأفكار والآراء.
الواقع الحالي:
الوظائف الاجتماعية والثقافية:
على الرغم من مرور عشرات السنين إلا أن المقاهي الشعبية ما زالت تُستخدم يوميًا كمكان لتلاقي مختلف فئات المجتمع: شباب، كبار، عمال، مثقفين، لتبادل الأحاديث حول الواقع السياسي والانفعالات الاجتماعية، وقضايا الثقافة العامة والنقاشات الأخرى حول القضايا المختلفة.
حيث إن شرب الشاي مثلما يقولون، قلص شاي حليب أو أحمر جرو يشكّل جزءًا لا يتجزأ من هذه التجربة الاجتماعية، فهو ليس مجرد شراب بل وسيلة للراحة والتأمل وربط العلاقات اليومية.
وفي سؤالنا للحاج عبدالله مبارك عن الشاهي قال: الشاهي الحليب مزاج لا طعم له إلا في عدن.
وأضاف: أنا وصلت إلى عمر 80 ومازلت كل يوم أنزل بمساعدة ابني بعد العصر لشرب الشاهي، ولقاء الأصدقاء ولنلعب دور دمنة، فهذا الشيء له طعم ثاني لا يمكن أن تجده إلا في عدن.
التحديات الاقتصادية والتغيرات المجتمعية:
الأزمات الاقتصادية:
لا شك أن تغيرات الأوضاع الاقتصادية التي تشهدها البلاد أثرت بشكل واضح على المقاهي الشعبية في عدن، حيث إن ارتفاع أسعار المواد الأساسية مثل السكر وورق الشاهي والحليب، بالإضافة إلى تدهور قيمة العملة، كلها عوامل أثّرت على قدرة الناس على الجلوس في المقاهي الشعبية بانتظام، خاصة وأن القلص الواحد صار يُكلّف مبالغ تعتبر كبيرة لأصحاب الدخل المحدود.
إلا أن هناك تحسناً نسبياً بالوضع خلال الشهور الماضية، حسب مالك أحد المقاهي، الذي قال: قبل عام وصل القلص الشاهي الحليب إلى 400 ريال، وبسبب ذلك عزف معظم الناس عن ارتياد المقاهي، ولكن الحمدلله تحسن الحال خلال الشهور الماضية، بعد تحسن طفيف للوضع الاقتصادي وانخفاض الأسعار فرجع القلص الشاهي مثلما كان بـ200 ريال.
المنافسة من المطاعم الحديثة والوجبات السريعة:
العالم يتطور، ولا شك بأن التطور هذا فيه إيجابيات وسلبيات، ومن سلبياته أننا ننسى ونتجاهل الماضي الجميل.. فوصول مطاعم الوجبات السريعة ومتاجر العصائر والمقاهي الجديدة التي تعتمد على الديكور الجذاب والهواء المُكيّف، رفع من سقف توقعات الزبائن مما أجبر المقاهي الشعبية على مواجهة ضغوط كبيرة للبقاء.
التغير في أنماط الاستهلاك والتسلية:
ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، التلفزيون، الفضائيات، والمناسبات الترفيهية الجديدة، جعل بعض الشباب يفضّلون قضاء أوقات الفراغ في أماكن غير المقاهي الشعبية، أو حتى في المنزل.
وعلى الرغم من ذلك، إلا أن هناك بعض المقاهي الشعبية تسعى وتحاول لمواكبة تطورات المقاهي والكافيهات الحديثة.
الإمكانات والدور المتجدّد والصمود للبقاء:
رغم كل التحديات، تظل المقاهي الشعبية تمتلك مقومات تميزها عن غيرها من المقاهي الحديثة، فالمقاهي القديمة تُشكّل تراثًا حيًّا يُحكى فيه عن الزمن الجميل، النضال، الثقافة الشعبية، والتنوع المجتمعي، حتى أن بعض الشباب يفضل المقاهي الشعبية عن غيرها، كونها فضاء حيًّا للنقاش والتعبير.
يفضل رواد المقاهي الشعبية مناقشة السياسة، القضايا المحلية، الثقافة، والصراعات اليومية أثناء الجلوس بالمقهى، وفي أحايين كثيرة تكون أول من يستجيب لما يدور في الشارع من هموم ومواقف.
القرب المجتمعي والبساطة:
المقاهي الشعبية متاحة من الناحية المادية لمن لا يستطيع الدخول إلى أماكن باهظة الثمن، وبسيطة في تقديمها، مما يجعلها أكثر تلقائية في التفاعل الاجتماعي.
حيث إن بإمكان من يجلس على المقهى أن يجلس كما يشاء من الوقت مقابل قلص شاهي، عكس غيرها من الكافيهات.
التحديات التي تواجهها المقاهي الشعبية:
الموارد المالية:
المقاهي غالبًا تعمل بهامش ربح ضيق، والتكاليف المرتفعة تؤثر على استمراريتها.
البُنى التحتية والخدمات:
نقص في التكييف، النظافة، الأثاث الجيد، والمرافق الأساسية، قد يدفع ذلك الزبائن للبحث عن بدائل أفضل.
الضغوط الثقافية والتغير الاجتماعي:
تغيّر القيم والأساليب الحياتية، وطلب أفضل التجارب المادية، قد يقلّل من اهتمام بعض الأشخاص بأجواء المقاهي التقليدية.
توصيات نشطاء ومهتمين بهذه الشأن:
طالبت مجموعة من الناشطين المجتمعيين والشخصيات الاجتماعية وآخرين من المهتمين، بالمحافظة على تراث المقاهي الشعبية، وذلك وفق الآتي:
تعزيز دورها كمراكز ثقافية:
طالب ناشطون بتنظيم فعاليات أسبوعية أو شهرية، مثل قراءات شعرية، أمسيات أدبية، مسابقات ثقافية، ندوة مصغّرة، عرض أفلام وثائقية، مما يجذب شرائح الشباب والمثقفين للمقاهي الشعبية.
تحسين البُنى والتجهيزات:
طالبت شخصيات اجتماعية الجهات المعنية بمساعدة ملاك المقاهي الشعبية في تحسين وضع مقاهيهم، حتى إن بقاء البساطة جزء من السحر؛ إلا أن بعض الضوابط التنموية مثل النظافة، الإضاءة الجيدة، الهواء، الأثاث، كلها مؤثرات كبيرة.
ورأى بعض المهتمين بهذه الشان أنه يتوجب الاستفادة من الدعم المؤسسي والمشاريع التنموية: قد تكون هناك إمكانية لبرامج حكومية أو داعمين محليين أو منظمات مجتمع مدني، لإعادة تأهيل المقاهي التي لها قيمة تاريخية، أو تأهيلها لتكون منابر ثقافية.
ختاماً..
المقاهي الشعبية في عدن تشكّل واجهة حياتية تُعبّر عن روح المدينة – مزيج من البساطة، التاريخ، التنوّع الاجتماعي والثقافي. ورغم الضغوطات والتغيّرات، ما زال لها دور محتمل في استعادة بعض من مجدها السابق إذا ما توفَّرت الرؤية والدعم. إنها ليست مجرد استجمام ومشاركة، بل ذاكرة حية تُدوّن اللحظات والأفكار التي تُصوغ المجتمع.