دولية

سيناريوهات نهاية الحرب في أوكرانيا .. بين تنازلات الأرض وضمانات الأمن

كريترنيوز /متابعات /د ب أ

 

تدور النقاشات الدولية حاليا حول ملامح نهاية الحرب في أوكرانيا، في ظل مساع دبلوماسية تقودها الولايات المتحدة وروسيا وعدد من الدول الأوروبية، بمشاركة أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي. وتتركز القضايا المطروحة على طاولة المفاوضات في ثلاثة محاور أساسية: وضع الأراضي المتنازع عليها، وضمانات الأمن المستقبلية لكييف، ودور الردع النووي في توازن القوى بين روسيا والغرب. وتبقى هذه الملفات مفتوحة على احتمالات متعددة، تعكس صعوبة التوصل إلى تسوية شاملة للصراع المستمر.
ويقول الباحث ستيفن سيمبالا، وهو باحث علوم سياسية وخبير أمن دولي، والباحث لورانس كورب، وهو مساعد وزير دفاع أمريكي سابق وخبير أمن قومي، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنترنيست إن واشنطن شهدت، خلال عطلة نهاية الأسبوع الممتدة من 15 إلى 18 أغسطس، مشهدا دبلوماسيا غير اعتيادي، حيث تدفقت وفود من رؤساء دول ومسؤولين كبار إلى المكتب البيضاوي لمناقشة مسألة وقف إطلاق النار أو التوصل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا. وقد انطلقت هذه الدينامية بلقاء ثنائي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 أغسطس.
وفي يوم الاثنين التالي، انعقد اجتماع ضم عددا كبيرا من قادة الدول الأوروبية إلى جانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته، فضلا عن شخصيات بارزة أخرى. ومن منظور تاريخي، بدا هذا الأسلوب من “دبلوماسية القمم” لمعالجة النزاعات الدولية غريبا بعض الشيء. فعادة ما تبدأ مفاوضات إنهاء الحروب أو تسوية النزاعات باجتماعات خبراء من الدول المعنية بالنزاع، بمشاركة وسطاء، لتمهيد الطريق أمام تسوية سلمية يوقعها قادة الحكومات أو رؤساء الدول لاحقا.
لكن هذه المرة، جرى الأمر بالعكس، إذ بدأ اللقاء من الأعلى إلى الأسفل، حيث اجتمع ترامب وبوتين على انفراد في ألاسكا لنحو ثلاث ساعات، ثم تلا ذلك اجتماع متعدد الأطراف في واشنطن بعد أيام قليلة. وبمعنى آخر، تم تنفيذ مبادرة يقودها كبار القادة مباشرة بدلا من اتباع نهج تصاعدي من القاعدة إلى القمة. ففي الحالة التقليدية، يلتقي الرؤساء والقادة السياسيون بعد أن تكون الخطط قد صيغت بعناية واختبرت على يد فرقهم ودوائرهم البيروقراطية.
لكن الحقيقة المؤلمة تبقى أن إشعال الحروب أسهل بكثير من إيقافها. وكلما طال أمد الحرب وارتفعت تكاليفها على الشعوب وقيمها، أصبح القادة والرأي العام أكثر مقاومة لفكرة السلام. والتاريخ مليء بحروب استمرت أطول بكثير مما كان يتوقع القادة السياسيون والعسكريون، وجلبت مآسي أكبر بكثير مما ظنوا.
وفيما يتعلق بالشق الأول، أي تبادل الأراضي، يدور الكثير من الحديث حول ما يبدو أنه مطلب روسي بالسيطرة الكاملة على إقليم دونباس، بما في ذلك أجزاء من دونيتسك التي لا تزال تحت سيطرة القوات الأوكرانية. ولم يكن واضحا تماما ما الذي ستقدمه روسيا في المقابل إذا قبلت أوكرانيا بالتخلي عن كامل دونيتسك لصالح السيطرة الروسية بعد الحرب. ومن شأن ترتيبات إعادة نشر القوات أن تكون معقدة للغاية بالنسبة للطرفين، وقد يتطلب رسم خط سيطرة جديد في شرق أوكرانيا نشر قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات للإشراف عليه.
أما الشق الثاني فيتعلق بضمانات الأمن لأوكرانيا بعد الحرب. وهنا يدور الجدل داخل حكومات “الناتو” حول مدى شمولية وإلزامية تلك الضمانات. فالمادة الخامسة من ميثاق الحلف تلزم جميع الأعضاء بالدفاع عن أي دولة عضو تتعرض لهجوم عسكري خارجي. ونظرا للتفاوت الكبير في القدرات العسكرية بين الدول الأعضاء، فإن عبء الردع أو استخدام القوة العسكرية ضد روسيا سيقع بالأساس على الدول ذات الميزانيات العسكرية الأكبر، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
لذلك، من المرجح أن تتضمن أي ضمانات أمنية ما بعد الحرب التزام الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، وغيرها، بنشر قوات عسكرية وبنى تحتية داعمة داخل أوكرانيا. ويبقى السؤال حساسا حول ما إذا كان ذلك سيشمل وجود قوات أمريكية على الأرض، لكن الحقيقة البسيطة هي أنه من دون دعم عسكري أمريكي مباشر أو غير مباشر، ستفتقر أي قوة ردع بعد الحرب إلى المصداقية. وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تنشر بالفعل نحو 84 ألف جندي في أوروبا.
وثمة جانب آخر يتعلق بالضمانات الأمنية، وهو دور الأسلحة النووية والردع النووي في العلاقة بين أوكرانيا وروسيا، وكذلك بين روسيا و”الناتو”. فعدد الأسلحة النووية الروسية التكتيكية يفوق تلك المنتشرة لدى الولايات المتحدة في أوروبا، والتي يمكن أن يستفيد منها الحلف. ولوّح بوتين أو مسؤولون روس مرارا بإمكانية اللجوء إلى الاستخدام النووي الأولي إذا واجهت روسيا تهديدا كبيرا لأمنها أو نظامها.
وبموجب معاهدة “ستارت الجديدة” للحد من الأسلحة، تتمتع روسيا بتكافؤ جوهري مع الولايات المتحدة في عدد الرؤوس النووية الاستراتيجية ومنصات إطلاقها. كما أن المملكة المتحدة وفرنسا تحتفظان بترسانات نووية وطنية خاصة بهما، على غواصات الصواريخ الباليستية، وفي حالة فرنسا على طائرات تنطلق من البر أو البحر.
ويقول الباحثان إنه لذلك، فإن أي تسوية سلمية دائمة لأوكرانيا يجب أن تعالج خطر لجوء روسيا مستقبلا إلى “الابتزاز النووي” ضد أوكرانيا أو ضد “الناتو” بهدف تقويض دعمه لكييف. وينبغي ألا يُسمح لروسيا بنشر أسلحة نووية على أراضي أي دولة مجاورة لأوكرانيا (مثل بيلاروسيا). وفي المقابل، ينبغي أن يعلن كل من الولايات المتحدة و”الناتو” أن أوكرانيا منطقة خالية من الأسلحة النووية، وأنه لا يجوز لها مطلقا أن تصبح دولة نووية. وبالمقابل، على روسيا أن تتخلى عن التهديد بالابتزاز النووي، مع تذكيرها بأن لدى “الناتو” درعا نوويا يشمل أوكرانيا كشريك استراتيجي، وإن لم تكن عضوا رسميا في الحلف.
ويقول الباحثان إن هناك عددا هائلا من القضايا التي ينبغي أن تعالج على مستوى القادة ومستشاريهم العسكريين قبل أن يصبح التوصل إلى تسوية سلمية قابلة للتطبيق ممكنا. وقد قال الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي ذات يوم: “يجب ألا نتفاوض بدافع الخوف، لكن يجب أيضا ألا نخشى التفاوض.” وهذه الحكمة كانت صالحة آنذاك وما زالت صالحة اليوم.
أما الافتراض بأن أوكرانيا المدعومة من “الناتو” وروسيا يمكنهما مواصلة إرسال قواتهما إلى “المطحنة” من دون مخاطر وجودية على أوروبا، فهو محض تفاؤل أعمى. إن الوصول إلى اتفاق “نعم” يتطلب قدرا هائلا من الدبلوماسية الشاقة، واستعدادا من جميع الأطراف لقبول تنازلات مثيرة للجدل قد لا تحظى بشعبية في نشرات الأخبار المسائية. فمن السهل على من يقفون على الهامش أن يطلقوا صرخات “استرضاء” أو “خيانة” ضد المفاوضين المخلصين، لكنهم ليسوا هم من يعيشون في مرمى الخطر.

زر الذهاب إلى الأعلى