“دبلوماسية الشتائم السياسية” هل هي انعكاس لعالمٍ يغلي بالاصطفافات؟

كريترنيوز /متابعات /أحمد الشنقيطي
في زمنٍ تتكثّف فيه التوترات الجيوسياسية ويزداد فيه حضور الشعبوية على المنصّات، يبدو أن الدبلوماسية، بما كانت تمثّله من فنّ للّغة وضبطٍ للنبرة وتوازنٍ في الإشارة، بدأت تفقد شيئاً من أناقتها القديمة.
مشهد المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت، الأسبوع الماضي، وهي تردّ على أحد الصحافيين بكلمة واحدة «أمّك» قبل أن تغادر القاعة، بدا كأنه رمز لعصرٍ جديد من التواصل السياسي بلا قيود ولا فواصل؛ عصرٍ تتقلّص فيه المسافة بين تصريح الدولة وتعليق الشارع.
وخلال اجتماع للجنة الأمن القومي، وصف وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير نائبات بأنهن “ناطقات باسم حماس”، فردت عليه عضوة الكنيست ياسمين ساكس فريدمان من حزب “يش عتيد” بقولها: “أمك هي ناطقة حماس”.
في منتصف القرن العشرين، وفي أوج الصراعات العالمية، كانت البلاغة السياسية جزءاً من أدوات النفوذ، وكان ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، يختزل فلسفة شهيرة تقول: «الكلام أفضل من الحرب»، وجاء بعده الفرنسي شارل ديغول ليؤكد أن اللغة الدبلوماسية «سلاح بلا دماء».
في تلك الحقبة، كانت الكلمات تعبر عن أوزان الدول ومواقفها، وتُصاغ البيانات كما تُصاغ المعاهدات، بدقّة خاضعة للهيبة واللباقة. أمّا اليوم، كما تقول مجلة «فورين أفيرز» في تحليلٍ حديث: «تراجعت الدبلوماسية اللغوية أمام دبلوماسية الانفعال»، حيث لم تعد التصريحات تُحرّر خلف الأبواب المغلقة، بل تُطلق على المنصّات في بثٍّ مباشر، يتلقّاه الملايين قبل أن يقرأه السفراء.
أناقة وصفاقة
لم يخلُ التاريخ من مشاهد دبلوماسية خشنة، ففي عام 1960، نستذكر منها ضرب الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف طاولة الأمم المتحدة بحذائه اعتراضاً على كلمة مندوب الفلبين، في مشهدٍ ظلّ يرمز لعصر الدبلوماسية الغاضبة، لكنّ تلك الحادثة بقيت استثناءً، ولم تتحوّل إلى أسلوب عام كما يحدث اليوم.
وحين اندلعت أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، كتب جون كينيدي إلى نيكيتا خروتشوف رسالة من 1500 كلمة، صيغت بعناية لغوية عالية، خالية من أي تعبير شخصي جارح، رغم أن العالم كان على شفا حرب نووية.
وفي المقابل، حين اجتاحت الولايات المتحدة العراق عام 2003، تراجعت لغة الدبلوماسية متعددة الأطراف لتحل محلها «تحالفات القوة»، وشهدنا التراشق الكبير بين دبلوماسيي البلدين ونحتهم للعبارت التي انتشرت على ألسن الناس حينها، في لحظة اعتبرتها “بي بي سي”: «لحظة كسرٍ في النغمة الأخلاقية للدبلوماسية الأميركية».
في العقود اللاحقة، ظلّ الانضباط اللفظي قاعدةً لا تُكسر إلا نادراً، ثمّ دلفنا إلى ما يمكن تسميته «القرن الرقمي»، حيث فتحت للزعماء نوافذ السوشيال ميديا، فأصبح الزعيم يغرّد أكثر مما يتحدّث في المؤتمرات، ويُهاجم أكثر مما يُفاوض.
منذ وصوله للبيت الأبيض، وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قواعد جديدة للعبة الدبلوماسية.. فاللغة التي كانت تُصاغ في أروقة وزارة الخارجية باتت تُكتب على «تروث سوشيال» أو تُلقى في مؤتمرٍ صحفي غاضب.
وصف ذات مرة بلداناً إفريقية إضافة إلى هايتي بأنها «بلدان قاذورات»، وسخر من رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، وهاجم حلف شمال الأطلسي بأسلوبٍ غير مسبوق.
تقول مجلة «ذي أتلانتيك» عن ذلك، إن ترامب «نقل الخطاب الأميركي من الدبلوماسية إلى المباشرة العدوانية، ومن الحوار إلى الهجوم الشخصي».
ترامب لم يكن وحيداً في هذا التحوّل؛ فالصين المتحفظة عادة، وصفت ممارسات تايوان بأنها «عهر سياسي»، كما حظيت أوروبا بنصيبها من القاع، حين تبادل بعض قادتها عبارات لاذعة مثل وصف جورجيا ميلوني لماكرون بـ«النخبوي المنفصل عن الواقع» إلى ردّه بأنها «قومية لا تُطعم الفقراء».
لقد تحوّلت المنابر الرسمية إلى ساحات تراشقٍ سياسيّ معلن، لا فرق فيها بين لغة الدبلوماسي ولغة الشارع، ووفق تحليلٍ لـ«معهد الدراسات الدبلوماسية» في لندن، فإن معدّل التصريحات العدائية الصادرة عن مسؤولين كبار تضاعف ثلاث مرّات منذ عام 2015، مع توسّع رقعة التواصل المباشر على المنصّات.
زمن متوتّر
تحليلات «مؤسسة بروكينغز» الأميركية ترى أن هذا الانحدار في لغة العلاقات الدولية «انعكاسٌ مباشر لعصر الاستقطاب والانقسام»، حيث لم تعد الدول تتحدث إلى بعضها، بل إلى جماهيرها الداخلية. فالعبارات الهجومية لم تعد خطأ بروتوكولياً، بل أضحت أداة تعبئة سياسية ورسالة موجّهة للداخل أكثر من الخارج.
اليوم، تبدو الدبلوماسية في امتحانٍ صعب، فالعالم الغاضب لا يمنح الكلمات فرصةً للوزن والتأمل، وتغريدة واحدة قد تُفقد سفيراً موقعه، وعبارةٌ عابرة قد تشعل أزمة، بما يوحي أن الدبلوماسية فقدت ما كانت تُسمّى «لباقة الضرورة»؛ تلك التي تجعل الكلمات مرآةً للحكمة لا سلاحاً للازدراء والاستفزاز.
ومع ذلك، يرى بعض الخبراء أن هذا التحوّل ربما يكون «عرضاً من أعراض الانتقال إلى نظام دولي جديد»، كما تقول “فوريون أفيرز”، حيث تتراجع الهيمنة الأحادية وتكثر الأصوات واللغات، فتتسع الفوضى ويتقلّص الاتزان.
في عالمٍ يغلي بالاصطفافات، هناك من يريد للدبلوماسية أن تفقد دورها جسراً بين الدول، لتصبح الشتائم السياسية جزءاً من المشهد، وتتبخّر «اللباقة» ويبكي الصمت حكمته، والكلمة وزنها.