
غادرنا اليوم في مهجره الأمريكي ودون وداع الشخصية الاجتماعية والشاعر محسن عمر محمد عبدالله الكوشاب الخلاقي ، عن عمر 86 عاماَ، فهو من مواليد 1936م تقريباً في بلدة (خلاقة) بيافع ، كما ورد في سيرته الذاتية التي تصدرت ديوانه الشعري الوحيد الذي صدر بعنوان (ديوان الشاعر المهاجر محسن عمر محمد الخلاقي). وقد قضى معظم سنوات عمره في مهجره الأمريكي، إذ بدأت رحلة هجرته من مسقط رأسه خلاقة – يافع مُنذُ وقتٍ مبكر من حياته، أسوة بأبناء جيله من منقطة يافع الذين يغادرون إلى مختلف أصقاع الأرض طلباً للرزق لمساعدة أسرهم. وقد كانت المحطة الأولى له في رحلة الاغتراب والهجرة هي العاصمة القطرية (الدوحة)التي وصل إليها مع عدد من أبناء بلدته (خلاقة) ولم يكمل حينها السنة الخامسة عشر من عمره، وفي قطر اشتغل جندياً لمدة سبع سنوات. ثم هزه الشوق للوطن والأهل وعاد إلى مسقط رأسه، ولم يفضل العودة إلى الحياة العسكرية، وعمل خلال ذلك سائق ناقلة بين عدن ومكيراس عبر نقيل (ثرة) الشهير الذي كانت الطريق فيه غير معبدة وفي غاية الصعوبة.
وفي عام 1964م قرر خوض تجربة الهجرة من جديد، وكانت وجهته في هذه المرة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد استقر فيها منذ ذلك الحين وحتى وفاته، لكن دون أن تنقطع صلته بمسقط رأسي ووطنه وأهله، حيث كان يقوم بزيارات متواصلة، وظل على تواصل مستمر مع ما يدور في وطنه من أحداث وتطورات وهو ما عبر عنه في كثير من قصائده رغم خصوصيتها.
وفي مهجره الأمريكي بدأ الاشتغال بالأعمال التجارية منذ السنوات الأولى لوصوله إليها، وقد كون نفسه تدريجياً وتمكن، بفضل الله، من تحقيق نجاحات في الأعمال التجارية التي ارتبط بها وأصبحت مهنته الأساسية.
وفي رحلة حياته العملية الطويلة نجاحات عديدة يعتز بها، يقول عن ذلك:” قد يعتبر البعض أن نجاحاتي في الأعمال التجارية هي الأهم في مشوار كفاحي، وهذا صحيح، لكنني أعتبر النجاح الأكثر أهمية والذي أعتز وافتخر به في حياتي أكثر من سواه، هو إصراري ونجاحي في تعليم جميع أبنائي. فقد وضعت نصب عيني منذ البدء أن أعوض أبنائي مما عانيناه من حرمان من التعليم في طفولتنا، حيث لم يكن حينها وجود للمدارس في خلاقة أو يافع عامة، واقتصر التعليم على شكله البدائي المتمثل بقراءة القرآن الكريم في (المعلامة) فقط، وتمكنت من تحقيق أهم أمنية في حياتي، وأفخر الآن حين أرى أن ابني وبناتي قد حصلوا جميعهم على تعليمهم الجامعي المتخصص ومنهم المهندس والطبيب، ومنهم من حصل على دراسات عليا، وأشكر الله كثيراً”.
وللفقيد بصمات لا تُنسى في العمل الخيري، ويذكر الجميع له إسهامه الفعال في على رأس عدد من أبناء خلاقة في تشييد أول مسجد كبير في خلاقة، في سبعينات القرن الماضي، وأتذكر أنني كنت أساعده في تدوين التبرعات والصرفيات وكنت حينها ما أزال طالباً في المرحلة الإعدادية، كما ساهم في تشييد مدرسة خلاقة الابتدائية التي شُيدت بمساهمات المواطنين ودعم المغتربين، كما شارك في نشاط العديد من الجمعيات الخيرية..
وكان الفقيد يقول الشعر، وقد تأثر بوالده الذي كان شاعراً شعبياً عاصر صديقه الشاعر محمد سالم المحبوش الخلاقي رحمهما الله، وللأسف أن قصائدوالده لم توثق ، عدا قصيدة بدع وجواب بينه وبين المحبوش. ولكن شاعرنا الفقيد محسن عمر اهتم بتدوين قصائده وهواجسه التي يقول عنها:” جميع قصائدي نبطية شعبية باللهجة اليافعية وهواجسي قد تأتي بأي حين، تخاطب حالة كنت أعيشها أو شخص أخاطبه بهواجسي، أو خواطر وأفكار أتبادلها مع الأصدقاء والأهل، وجميع قصائدي شخصية وليس لدي قصائد عامة أو ألفتها بقصد النشر، ورغم ذلك فأن الهموم العامة وقضايا الوطن والمجتمع تفرض نفسها في العديد من قصائدي، وهو أمر طبيعي لارتباطي الحميم بأهلي ووطني في حلي وترحالي”.
وقد تبادل العديد من قصائد المساجلات مع عدد من أصدقائه الشعراء الشعبين، وهي تتعرض لأمور وأحوال شخصية أو هموم مشتركة، وتعبر في مضامينها عن روح الصداقة التي جمعته بهم ومنهم: الشاعر الكبير شايف محمد الخالدي(أبو لوزة) رحمة الله ، والشاعر عبدالله عمر المطري رحمة الله ، والشاعر محسن محمد الاشطل البكري رحمه الله، والشاعر حسن صالح شيخ بن سبعه، والشاعر عبدالله حسين الصبري البيضاني وآخرين.
ومن وحي ديوانه نورد هذه الأبيات التي يفخر بها بتعليم أولاده، يقول:
يقول أبو فضل ما حب البدع
يا حي قيوم يا مولى الصفات
من عامل الله ومن يحصد زرع
والوقت عياب وقُل ما فات فات
بذكر زماني ولفَّات البرع
مع الرجاجيل كم خزنت قات
علمت خمسة وكم محسن جمع
وارتاح بالي وذه الابيات جات
خَذوا الماجستير وراسي قرتفع
قبل الندم قبل ما شوف الفوات
العلم نعمة يرفع وارتفع
والجهل بيخلي الأسرة شمات
خمسة عددهم وسادسهم جدع
وأصبح مهندس جنير الطايرات
واليوم محسن متى يطلع رجع
ماعاد بقدر لطلعات الهدات
ومسك الختام هذه الأبيات المختارة من قصيدة له بعنوان (العز عندي مكسب)، يقول فيها:
قال الفتى ابن الكوشاب، الوقت هذا عيَّاب
والله فاتح الأبواب، عالم وداري حالي
يا رب لا عبدك تاب، أقبل وأنت التواب
أنت القوي والغلاب، شُوف قلب محسن سالي
حتى ولا رأسي شاب، الطبع لوَّل ما ذاب
دايم بذهني ما غاب، والوقت مُرْ وحالي
والضيف لا جاء مرحب، رحَّبت به مية مرحب
مانا مثيل الثعلب، يقول ضيفي جاء لي
بَذبح جليل المجلب، ما عند محسن محسب
والعز عندي مكسب، والضيف عندي غالي
والشمع مثل الكهرب، محسن عمر كم جرَّب
وكم حجار قلب، والوقت ذا يرثي لي
رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته..
وإنا لله وإنا إليه راجعون