مقالات وآراء

إعادة هندسة الواقع.. معركة المصطلحات في الصراع السياسي الجنوبي

كتب: جسار فاروق مكاوي

ما يجري اليوم في الساحة السياسية في الجنوب ليس مجرد صراع تقليدي بين أطراف متنافسة، بل هو عملية إعادة هندسة للواقع، حيث يتم التلاعب بالمفاهيم وتفريغها من محتواها، في محاولة لإعادة إنتاج الأزمة بأدوات أكثر تعقيدًا. المعركة الحقيقية لم تعد تدور حول الأرض أو السلطة فقط، بل حول الكلمات والمصطلحات التي يتم استخدامها للتأثير على الوعي السياسي للجماهير وتوجيه بوصلة الصراع إلى اتجاهات مغايرة لما هو عليه.
إعادة تعريف المصطلحات وسرقة المعاني .
في عالم السياسة، لا يقتصر الانقلاب على السلاح فقط، بل يمتد إلى الكلمات التي يُعاد تشكيلها لتصبح أدوات لفرض الواقع الجديد. في الوقت الذي يكون فيه تغيير المصطلحات أمرًا شائعًا في كل الصراعات السياسية، يبدو أن ما يحدث في الجنوب أكثر خطورة. فالمصطلحات التي كانت تحظى بمكانة كبيرة في ذهن الجنوبيين يُعاد تفسيرها لتخدم أهدافًا بعيدة عن تطلعاتهم.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو مصطلح “استعادة الدولة” الذي يتم تغييره إلى “العودة إلى الدولة”، وهو ما يختزل القضية الجنوبية إلى مجرد مطلب إداري دون أن يُعترف بها كمشروع وطني شامل. هذه التلاعبات اللغوية تهدف إلى تحجيم القضية الجنوبية، وتحويلها من قضية استقلال وحق تقرير مصير إلى مطلب تقني يمكن تسويته بطرق لا تضمن لأي طرف من الأطراف المعنية تحقيق أهدافه.
كذلك، يتم الترويج لفكرة “دمج القوات” بدلاً من “توحيدها”، وهو تغيير يتسم بالغموض، حيث يؤدي إلى خلط المفاهيم وإلغاء فكرة بناء قوة عسكرية جنوبية مستقلة. هذا النوع من التلاعب بالمصطلحات يحاول إشاعة حالة من الغموض السياسي، ما يفتح المجال للتلاعب بمواقف القوى المحلية والإقليمية، ويعمق حالة التشويش التي تشهدها الساحة الجنوبية.
وفي ذات السياق، تتكرر شعارات مثل “الوحدة الوطنية” و”الشراكة” التي يتم تسويقها على أنها حلول توافقية، لكن في واقع الأمر هي شعارات تُستخدم لتمرير مشاريع الهيمنة والسيطرة تحت غطاء التوافق. ذلك أن هذه الشعارات تُبقي الجنوبيين في حالة من الصراع الداخلي المستمر، وهو ما يضعف قدرتهم على مواجهة التحديات الأساسية التي تهدد مشروعهم الوطني.
التلاعب بالسياقات ودفع الأطراف إلى معارك غير محسوبة
ما يتبعه الخصوم السياسيون في الصراع الجنوبي هو تقنيات متقدمة من التلاعب بالسياقات، ودفع الأطراف إلى معارك جانبية تستنزف قوتها وتقلل من قدرتها على التركيز على قضاياها الأساسية. فعلى سبيل المثال، لا تكمن المشكلة فقط في التفريق بين المكونات الجنوبية، بل في خلق استقطابات داخلية بين هذه المكونات. عندما يتم استنزاف القوة الرئيسية مثل المجلس الانتقالي في صراعات جانبية وهامشية، فإن هذا يؤدي إلى تشتيت الجهود ويجعلها أقل فعالية في مواجهة العدو الحقيقي.
ومما يفاقم الوضع هو محاولات إيهام المجلس الانتقالي بوجود مكاسب سياسية قريبة، وهي في الحقيقة مجرد مكاسب زائفة. هذا التكتيك يهدف إلى خلق حالة من التراخي، حيث يعتقد الانتقالي أنه قريب من تحقيق أهدافه، بينما يتم الترتيب في الخلف لضرب موقفه الاستراتيجي وتقليص نفوذه في الساحة السياسية.
المعترك الجديد القديم: إعادة إنتاج الأزمة بوجوه مختلفة
ما يجري اليوم ليس أكثر من استكمال لسيناريوهات قديمة، لكن بأدوات جديدة تضمن استمرار الأزمة دون حلول حقيقية. في عام 1994، جرى غمر الجنوب في حرب مفتوحة تحت شعار “الدفاع عن الوحدة”، حيث كان هذا الشعار يهدف إلى إخفاء مشروع الهيمنة على الجنوب وتقليص استقلاله. وفي 2015، استُخدم التحالف العربي والمقاومة الجنوبية كقوة رئيسية، لكن دون أن يتم منح هذه المقاومة حق تقرير المصير أو بناء مستقبل سياسي خاص بها.
اليوم، تُستخدم نفس الأدوات ولكن مع محاولات لتغيير بعض التفاصيل، فيبدو أن هناك مسعى لتحييد المجلس الانتقالي سياسيًا وعسكريًا من خلال إعادة تشكيل المشهد تحت شعارات جديدة توهم الجميع بوجود حلول قادمة، بينما في الواقع يتم تفريغ هذه الشعارات من مضمونها.
ما العمل؟
في هذا السياق المعقد، لابد أن يدرك المجلس الانتقالي وأبناء الجنوب أن المعركة الحقيقية لا تقتصر على المواجهة العسكرية فقط، بل هي معركة فكرية سياسية تدور حول الكلمات والمفاهيم. إذا لم يدركوا أن الحرب الحقيقية هي حرب المصطلحات والمعاني، فسيجدون أنفسهم في ذات المأزق الذي أُسقط فيه الجنوب سابقًا. المواجهة تبدأ من فهم السياقات السياسية، ورفض الانجرار إلى صراعات جانبية تُضعف موقفهم، وإعادة ضبط المفاهيم بما يخدم مشروع استعادة الدولة الجنوبية، وليس بأي صيغة أخرى يتم تسويقها تحت شعارات مضللة.
من الضروري أن يعمل المجلس الانتقالي على تثبيت تعريفات واضحة لمفاهيم أساسية مثل “استعادة الدولة” و”الحقوق الوطنية”، مع التركيز على نقل هذه المفاهيم إلى الجمهور بشكل يضمن التفريق بينها وبين المشاريع التي تسعى إلى إعادة تدوير الأزمة وتحويلها إلى صراع طائفي أو فئوي. يجب أن يكون الصوت الجنوبي موحدًا في معركة المصطلحات والمعاني، مع رفض القبول بتسويات مشوهة تؤدي إلى تصفية القضية الجنوبية.
في النهاية، الأمر يتطلب توحيد الجهود وتبني خطاب سياسي واضح يدافع عن الحق الجنوبي في استعادة دولته بعيدًا عن لغة التلاعب والتشويش.

زر الذهاب إلى الأعلى