من مرحلة الطفولة بأحور

شهاب الحامد
اوشك العام الدراسي 73-74م ان يبدأ وحان وقت التسجيل في المدرسة، ولأنني أصغر اخوتي كانت لي الحظوة والحوافز المعنوية والمادية على شحتها وندرتها، وقد اعلنت عن رغبتي التسجيل في المدرسة الميمونة في البدء وعندما حصحص الحق واقتربت ساعة التسجيل تراجعت وبدأ مسلسل الدموع التي لا تجف الا بجعّالة.
اخي الاكبر العدني والاخ سعيد الشحاري التزما بالأرنب البري، اما اخي الآخر علي وعد بان يأخذني معه الى دكان على هارون، وهذا الدكان يعتبر في ذلك الوقت مثل بقالة الهريش في عدن ايام زمان.
كان العدني وسعيد يستغفلاني في كل مرة هكذا: (ياخي ماشي لك حظ، الارنب طحست على سعيد من بين يداته، وجرينا بعدها جرينا جرينا ودخلت علينا في الحفره، وبعدين حفرنا حفرنا حفرنا لما الجنب الثاني وقفزت فوقنا وجرينا بعدها جرينا جرينا) .. يكرر الكلام حتى تنقطع انفاسي من شدة تفاعلي مع المشهد.
ذهبنا الى دكان على هارون واشتريت منه لعبة عبارة عن سبّورة فيها ارقام متحركة، وطماش ابو خيط والوان شمعية واشياء أخرى، ومن دكان عبدالله الكودي اشترينا بدلة المدرسة وهي عبارة عن (قميص ابيض وشورت كاكي ابو وردة وبوت شراع ابيض مع الشراب وعلبة باليس)، وفي طريق عودتنا مررنا بدكان السيد (شنشن) الخياط واخذنا منه الكيس الابيض ابو زرار وهو بحجم الحقيبة المدرسية ويقوم مقامها.
عدنا الى البيت فرحين بجولة التسوق في أرقي المحلات نحمل الهدايا والاخبار عما رأيناه وسمعناه، اما الجماعة اصحاب الارنب مازالوا يجروا خلفها ولم يلحقوا بها وكلما اقتربوا منها قفزت الى مكان آخر.
أنهيت العام الدراسي الاول متفوقا وكرمت حينها بدفترين وقلم رصاص من قبل مدير المدرسة آنذاك الاستاذ سالم عبدالله اللبطه، كما وان هذه النتيجة كانت سببا كافيا للعودة الى علي هارون ودكانه العجيب، لكن من غير وعد بالأرنب هذه المرّة.
#عم_علي :
علي سعيد بن عوض حن، من أبرز عساكر السلطان وحرّاسه المقربين في سلطنة العوالق السفلى احور.. عمل مع السلطان عيدروس بن علي حتى مقتله عام 48ـ49م، ومن ثم مع الوصي شيخ بن علي حتى وفاته عام 55م، وبعد ذلك اعتنى بالسلطان ناصر بن عيدروس بن علي حتى اعتقاله عام 68م.
(عم علي) هكذا كان يناديه الكبير والصغير بينما السلطان والامراء واولادهم ينادونه (يا باه علي) احتراما له وتوقيرا وكل الذين يعملون في بلاط السلطان لهم حظ من هذا التفخيم والتبجيل.
تميز عم علي عن اقرانه بالطيبة والبشاشة، وكنا نراه ونحن طلبة في الصف الأول والثاني وهو يعتني بأشجاره التي تشبه اشجار السرو الطويلة التي غرسها بالقرب من المدرسة الميمونة في خط مستقيم وكان بجلب الماء على كتفه كل يوم ويسقيها واحدة تلو الأخرى، ورغم مشاغله واهتماماته الا انه كان انسانا مرحا على الدوام .. اذكره كما يذكره أبناء جيلي عندما كنا نخرج من المدرسة ونسير خلفه ونردد بصوت واحد:
ياعم علي وهو يقول (مال أمك)
ياعم علي .. (وين امك)
ياعم علي .. (قل لأمك)
ياعم علي .. (…. امك)
كنا نظنه يتحدث عن امه هو وليس عن امهاتنا نحن لكننا كبرنا وفهمنا.
#مدرسة_البنات:
قضينا في المدرسة الميمونة طيبة السمعة عامين دراسيين (73-74) و(74-75) وانتقلنا بعدها الى مدرسة البنات سابقا واعتقد ان سبب النقل هذا مع بداية تدشين نظام التعليم المختلط (بنين وبنات)، وفي هذه المدرسة بقينا عامين(75-76) و (76-77) أي سنة ثالثة ورابعة ابتدائي وفي هذه السنة اتذكر كيف ان احدى المدرسات ارادت ان تعلمنا كيفية الاحتفال بعيد الأم وكيف كانت ردة فعلنا حينذاك ..
#وردة_لماما:
قالت الست: قم يا شاطر ..
يقف عطبوش من الصف الأخير،،
وهي تقول: بكرة عيد الام يا حبوب ايش با تقدّم هدية لماما ؟!
عطبوش يتلفّت علينا ويضحك..
لانه مافي احد عندنا يحتفل بعيد الأم، ولا في احد يقول ماما.
تكرر الست: مالك يا ابني؟ انا عارفة إني احرجتك بالسؤال لكن
انا باساعدك..
الهدية يا ابني مش ضروري تكون مادية، ممكن تكون معنوية.
يستمر عطبوش يتلفت ويضحك لاننا كلنا مش فاهمين ايش الموضوع.
كان السلّال أكثر واحد يضحك على ورطة عطبوش ويتخيّل كيف انه سيقول لأمه يا ماما.
طلبت منهما الوقوف امام السبورة وقالت يا عطبوش افرض ان السلال امك وانته تهنيها بعيد الام ..
قل لها (سلام عليك يا ماما، يا احلى ماما في الدنيا) وكلام كثير مثل الذي نسمعه في أفلام الكرتون.
وعطبوش يكرر بعدها (سلام عليك يا ماما).. (يا احلى ماما في الدنيا) الى ان جثا السلال على ركبتيه من شدة الضحك.
وتحت هذا الضغط النفسي والخجل، بكى عطبوش وكانه نطق عيبا او قال كلاما لم يسبقه اليه احد من الصبيان ..
اقتربت منه الست وطبطبت على كتفه محاولة تهدئته، وعندما لم تفلح تدخل علي فيجح .
ياست ياست.. عطبوش امه ماتت.
#زيارة_سالمين :
الصف الخامس انتقلنا الى مدرسة الشهيدة فاطمة صالح عمر (مدرسة ليبيا) في العام الدراسي (77-78) حيث لا شيء يستحق الذكر في هذا العام أكثر من زيارة الرئيس الراحل سالم ربيع علي (سالمين) لمدرستنا وفصلنا.
كانت الحصة الثالثة او الرابعة وكان يديرها استاذ الرياضيات محمد الزلاطي، واذكر انهم كانوا يقطعون الدرس وينادونه للحضور الى الادارة أكثر من مرة بينما هو مصر على البقاء في الفصل ليكمل الدرس، ويبدو ان الادارة كانت ترى ان يكون جميع اعضاء هيئة التدريس في انتظار الرئيس عند وصوله والاستاذ الزلاطي يرى ان وصول الرئيس وهو في الفصل أفضل من انتظاره خارجا.
دخل الرئيس فصلنا، واخذ يلف في الفصل حولنا، كان رجل اشيب الشعر ابيض البشرة يبدو الاطول بين المحيطين به واوفرهم وسامة، توسط الواقفين وسأل عن ابناء البدو الرحّل بيننا وكان يجلس الى جواري الاخ محمد عوض ناصر(لجدع) وهو الوحيد تقريبا الذي يأتي كل صباح الى المدرسة سيرا على الاقدام ومن مسافات بعيدة.
اقترب منه الرئيس وامسك بشعره مازحا وهو يسأله عما يحتاجه وكان يهز راسه بالنفي ولم يطلب شيئا، وعندما أخبروه بانه الطالب المجتهد والمثابر وانه الاول على الفصل ضمه اليه ووجّه بصرف واحد دينار له مقابل المواصلات.
التقيت الاخ محمد عوض لجدع في الكود بابين عام 2010م وكان رفقة بعض الشباب وسلمت عليه وسألته ان كان مازال يستلم دينار الرئيس ام لا؟ واستغرب من معه سؤالي لكنه قال خلنا نطفي السيارة في الاول وبعد ذلك اسرد لهم القصة كما تريد.
لقد ذهب الرئيس سالمين لملاقاة ربه وذهب بعده زميلي محمد تاركا مقاعد الدراسة ليلتحق بالجيش الجنوبي باحثا عن ديناره الذي ضاع مع دولة سالمين.
بعد ذلك سأل الرئيس عن المواهب ان وجدت فأشاروا الى الاخ سعيد عبدالله فيجح الذي مازال يعزف في البيت ولم يظهر الى الناس ولم يسترزق بموهبته.
ومنذ طفولتنا ونشأتنا سويا نعلم ان سعيدا عازفا موهوبا، وكان اجتماعنا بعد المغرب بالقرب من منزلنا حيث يأتي سعيد مصطحبا عوده (التنك) ويجلس بيننا للعزف بينما الاخ عطبوش العقرب يتكفل بالغناء كأفضل الأصوات بيننا وكثيرا ماكان يردد اغنية (طبع الزمن هكذا خلّى الأحبة شواني) لأنه يتفرد بحفظها او جزء كبير منها بينما نشترك بعد ذلك كلنا كمجموعة في اغنية (سبولة) ولا اعلم سبب لتلك الحماسة الجماعية الا ان أحد الموجودين اسم امه سبولة وكان يتحرّج كثيرا من ذكرها في الاغنية.
ضحك الرئيس سالمين عندما عرف ان العود الذي يعزف عليه زميلنا سعيد عبارة عن (تنك) ولوح خشب واوتار جلب السمك، فوجّه على الفور باعتماد آلة عود جديدة لسعيد.
قبل سنوات كنت في زيارة للبلاد وعند مرورنا بجوار منزله في المساء سمعت رنات العود بوضوح اذ مازال زميلي عازفا رائعا كما عرفناه .. مات سالمين ولم يأت العود الموعود وبقي سعيد يعزف في الظل.
اما أجمل الامنيات حين تقدمت احدى الطالبات من الرئيس سالمين في الرواق بين الفصول اثناء مغادرته وبعد ان حاول الحراس منعها تدخل سالمين وسمح لها بمقابلته والتحدث اليه، فطلبت منه النظر في امر والدها السجين منذ أكثر من 7سنين دون اتهام يذكر، فامر بالأفراج عنه وهكذا عاد الأمير علي داحي القروة الى بيته واهله وعشيرته وعاش ما تبقى من عمره حتى توفاه الله بينهم.
في هذا العام الدراسي تغير المنهاج من النظام القديم الى الحديث وبهذا تكون دفعتنا الثانية من خريجي هذا النظام التعليمي الجديد الذي عمل على الغاء نظام (الاعدادي او المتوسط) واستبداله بنظام (سابع وثامن) وهو ما يعرف بنظام التعليم الموحّد، مع اضافة سنة دراسية رابعة للمرحلة الثانوية.