التجنيد الالزامي

كتب: شهاب الحامد
انتهت الامتحانات على خير مايرام وعدنا جميعا الى مناطقنا في انتظار اعلان النتائج التي اعتدنا ان تبدأ بعدها اجراءات استخراج الشهادة ومتابعة الالتحاق بالدراسة في الجامعة حيث كنا متفقين او معظمنا على مواصلة دراسة الدبلوم في كلية التربية ابين وبعدها الى التربية عدن دون انقطاع، لكن بعد اعلان النتائج وبدلا من متابعة استخراج الشهادة كانت متابعة التسجيل في مكتب التجنيد في ابين اذ صدر قرار بالتحاقنا بالدفعة (19) اسوة بزملائنا في الثانوية العامة بدلا من التسكين الوظيفي او مواصلة الدراسة الجامعية.
لم يرق لنا ذلك بطبيعة الحال وحاولنا بشتى الطرق ان نجد مخرجا لمواصلة الدراسة دون المرور بالمعسكرات لكننا لم نفلح وبعد شهرين من المتابعةسلمنا بالأمر الواقع الا ان الحذر من حدوث صراع بين الفرقاء كان يبطئ الهمم ويؤجل اللحاق بمن سبقنا الى العند وانتهينا الى البقاء بعيدا حتى تنتهي فعاليات المؤتمر العام الثالث للحزب الاشتراكي اليمني وتنتهي معها الازمة السياسية التي كادت تعصف بالبلاد في شهر مايو وهكذا كان.
انتقلنا الى ابين يوم 15/اكتوبر/1985م للتسجيل في مكتب التجنيد كملحقين بالدفعة ووجدنا اعداد كبيرة من شباب المحافظة قبلنا وهذا ما زادنا اطمئنانا من ان الغمة انقشعت وزالت اسباب الصدام حيث ومخرجات المؤتمر الثالث جاءت متوازنة ومرضية الى حد ما لجميع الفرقاء وأهم هذه المخرجات : تخلي الرئيس علي ناصر محمد عن رئاسة الوزراء التي اوكلت للأستاذ حيدر العطاس وأصبح الرفيق علي احمد ناصر عنتر نائبا لرئيس هيئة رئاسة مجلس الشعب الاعلى أي نائبا للرئيس.
في اليوم التالي 16/اكتوبر كان تفويجنا الى مركز التدريب بالعند وهناك تم فرز خريجي الثانويات والمعاهد الموازية عن عمال القطاع الخاص وتم توزيعنا على سلاح الاشارة والاخرين كل فيما يناسبه وفقا وتقييم لجنة الفرز، وهكذا التحقنا بالدفعة وبدأنا من صباح اليوم التالي تدريبات مكثفة على الحركة النظامية حتى تم دمجنا في فصائل وسارت الامور بشكل طبيعي في الميدان ومدرسة الاشارة وشيئا فشيئا اعتدنا بل احببنا هذا الروتين وخصوصا بعد ان تفرقنا الى حد ما للكرة الطائرة وبها كنا نعفى من نوبات الحراسات الروتينية المسائية وبعض المهمات والتكليفات الاخرى.
مرت هذه الفترة من تاريخ 16/أكتوبر/85م وحتى 12/يناير/86م ونحن نتعلم ونتقدم من حسن الى احسن وكل يوم نتعلم فيه من قوانين العسكرة وضبطها وربطها وحمشنتها ما يكفي لمواجهة قسوة اليوم الذي يليه ، ولم ندر ما تخبئ لنا الاقدار او ما يخطط له الاشرار في الغد لتعصف بكل احلامنا وآمالنا وتنتهي هذه البدايات في الجيش الى بحث جديد عن بدايات اخرى وربما لا بدايات ، وهنا اضع سلسلة حلقات يومية عن يوم الاثنين 13/ يناير وماتلاه من ايام الحرب كنت قد انزلتها في الفيسبوك في العام 2013م اضعها كما هي بلا رتوش وبذات الاسلوب السردي السهل والغير منمق والذي اعتقده مشوقا ومحببا وجذابا وبذات العنوان .👇🏻
كنت مجندا في العند :
الى زملاء الدفعة 19 – سلاح الإشارة – مركز التدريب العند .
الحلقة1 :
الاحد تاريخ 12/يناير/1986م الساعة السادسة مساء اصطفننا طوابير فصائل امام الثكنات لنستمع الى كلمة صف ضابط برتبة مساعد نظام لتحضير القوة وما تبقى من برنامج الاحد والوقوف على ما انجز منه وترتيب الحراسات الليلية الروتينية التي نقوم بها حسب الجدول المعد سلفا، لكن هذا لم يتم حسب المعتاد اذا اخذ الحديث عن تحديد موعد (المسير) الذي تقرر فجر اليوم التالي الاثنين 13/يناير/86م ، إذ اخبرنا بانه تم تحديد وجهة المسير الى نواحي جبل(دكيم) باتجاه الشمال للمعسكر وقدّرت المسافة بـــ(15)كلم ذهابا وايابا وحث الجميع على تجهيز(كيس المعدّات) وكل مايلزم منذ اللحظة والنوم والاستيقاظ باكرا وهكذا تفرقنا الى الداخل كل يقوم بتجهيز معداته اللازمة للمسير.
الساعة الثالثة فجرا وعلى صوت صافرة مساعد النظام اياه استيقظ الجميع مسرعين في سباق للوصول الى (بوزة الماء) نمسح اطرافنا وعلى عجل نلبس البدلة العسكرية والجزمة والزمزمية والطربوش وكيس المعدات الممتلي (بصراحة لا ادري كيف كنا نعمل كل ذلك في لحظات خاطفة) ثم اردف صافرة اخرى اقوى من الاولى واطول ايذانا بالطابور الخاص بأصحاب المسير ، ونحن في الطابور اذا بالنقيب محمد سعيد ، لا اذكر اسمه الثلاثي وما اذكره انه من المناطق الوسطى في ابين طويل نحيف ابيض وصاحب ملامح عسكرية جادة مع انه لطيف المعشر في أوقات الرست .
تقدم الطابور والقينا له التحية العسكرية اللازمة وبعدها لخص لنا برنامج المسير باقتضاب شديد وكانت القوة جميعها تحت امرته وتعدادها 300 مجند تقريبا.. تقدم المسير وسرنا خلفه في امان الله، طوابير قصيرة بهدوء وسط ظلام حالك وبرودة شديدة واجسام نحيلة بعضنا لا يقوى على حمل الكيس المعلق على ظهره، ونسمع صوته بين فترات متفاوتة يأمرنا بالإسراع قليلا (هرولة) او التأني مع تحديد المنعطفات في الطريق يمينا ويسارا، وعلى هذا المنوال حتى قطعنا مسافة الذهاب ومنحنا راحة ربع ساعة للاسترخاء وشرب الماء وقضاء الحاجة ، وبانتهاء وقت الاستراحة عكسنا الخط في طريق العودة الى المعسكر وكان وصولنا الى الساحة السوداء حيث يكون استعراض القوة كل صباح ، عند الساعة السادسة والنصف صباحا وهو الوقت الذي حدده النقيب محمد سعيد لحظة انطلاق المسير.
مررنا امام المنصّة والقينا التحية على القادة وكان يومها المقدم احمد الحرملي اركان مركز التدريب يعتلي المنصة بدلا من القائد المقدم هيثم احمد ، استمر سيرنا باتجاه ساحة مدرسة سلاح الاشارة لنتمم لدى القائد مدير المدرسة الرائد منصور محمد علي ، اقتربنا من الساحة واذا بالرائد منصور يجري تمارينه الرياضية المعتادة في الساحة مرتدينا لباس رياضي ازرق داكن بخطّين ابيضين وجزمة (شراع) بني اللون ، استقبلنا بترحاب وبابتسام وحيانا على تنفيذ البرنامج كما يجب واشاد بالنقيب محمد سعيد ، ثم قال: الاكل جاهز في البندرة افطروا وارتاحوا الى الساعة التاسعة وباشروا دراستكم كالمعتاد ، وما ان تفرقنا الا والطارف مننا قال (جندي الثورة) عند باب البندرة نتسابق على الفطور وطبعا كانت وجبة دسمة نشم رائحتها من مسافة بعيدة وهي عبارة عن قِدر كبير مليء بالفاصوليا والبطاط وزنابيل كبيره متروسة بالروتي ، وقِدر كبير يطفح بالشاهي الاسود الداكن الذي لا يحلو احتسائه الا في علبة الفاصوليا ، واقتحمنا البندرة مثل الجراد .
الحلقة (2)
صباح الاثنين 13/يناير/1986م مركز التدريب العند.
الوقت بعد السابعة صباحا ، الوضع العام هادئ جدا او طبيعي نرى على مسافة قريبة القوة المستعرضة في الساحة السوداء تنهي برنامجها وتتجه الى اماكن عملها بانتظام ولم يبق لنا الا التوجه للعنابر للراحة وهكذا فعلنا وما ان استلقينا على الاسرّة نال منا التعب وداهم اغلبنا النعاس.
قبل التاسعة انتظمت القوة الراجلة جميعها امام الثكنات وامرنا بالتوجه صوب المدرسة لاستئناف يومنا الدراسي الذي تعثر بسبب المسير ، دخلنا الصفوف وانتظرنا المدرسين ولم يأت احد ، انقضى وقت الحصة الاولى وبدأت الثانية والامر على ماهو عليه الا من بعض الجنود الذين يعملون في مكاتب المدرسة والذين اخبرونا ان جميع الضباط والصف في اجتماع مع قائد المحور الغربي قاسم يحيى بمركز القيادة في المحور وهكذا يمر الوقت بطيئا مملا الى الساعة الحادية عشر قبل الظهر ونحن نتنقل بين الفصول من قسم (المورس) الى (الريل) وقبل انتهاء الدوام المدرسي امرنا بالانصراف والعودة الساعة الثانية بعد الظهر للمراجعة اليومية اذ كنا نعود الى المدرسة للمراجعة والتطبيق خصوصا نحن الذين ندرس في قسم (المورس) وهو من اصعب المواد في الإشارة ، وعند خروجنا من المدرسة لاحظنا حركة غير مألوفة لم نعتدها من قبل اذ كانت تربض في الجانب الشمالي المقابل لعنابر السكن خاصتنا العديد من الدبابات والمدرعات والمدافع واليات نقل الجند والتي كانت مغطاة بشباك وطرابيل طوال الفترة الماضية ويحرسها نفر قليل، واليوم ينقشع التراب عنها والشبك والطرابيل ويعتليها ضباط وصف وجنود مجهزون بالكامل.
نتهامس فيما بيننا ايش في؟
ايش حصل ؟
الوضع يلفت النظر، غياب المدرسين واختفائهم عن المشهد طيلة النهار ، حركة الدبابات والاليات والجنود تثير الاستغراب لمثلنا نحن المجندون الجدد ولكن لا مجيب ولا تفسير .
خرج فاروق يتقصى الاخبار وعاد ضاحكا متمسخرا بنا (ياكروت ياجهال، انتوا الان عسكر والجيش يشتي قلوب حديد مش قلوب عزف، هذا استعداد عادي جدا مثلما رحتوا مسير اليوم هؤلاء يعملوا تمرين عن كيفية الاستعداد عند الضرورة)، لكنه بهذا الاستخفاف صرف انظارنا عن المهم ولم نهتم الا لغدانا وراحتنا قبل ان نعود الى المدرسة في العصر.
عاد فاروق بعد هذه الكلمتين الى الخارج يشحت حبة سجاره من العنبر المقابل ولم يأت بإفادة اخرى غير المزيد من التهكم.
تجمع بعضنا في حلقة حول عمر قمزاوي وهذا شاب خفيف الظل من أبناء المكلا يغني وينكّت ويقلد الأصوات ومعه رفقة من اقرانه الحضارم ، وهذه العادة يومية قبل القيلولة ، اما نحن ابناء احور في الطرف المقابل رفقة زملاء كثر من أبناء عدن وابين وشبوة ومنهم ربيّع علي بن علي وهو زميل مجند من ابناء البريقا وصديقه المقرب اسمه فهمي اعتقد من أبناء المعلا وكانا مبدعان جدا في صناعة الكلمات المتقاطعة التي نتسابق للحصول عليها وحلها والمتعة كل المتعة في الموضوع كان محمد مرخوص حتى ان ربيّع وفهمي يخفوا عنا الكلمات المتقاطعة حتى يأت مرخوص لانه كان ا ودائما تطلع اجاباته غلط.
هكذا كنا تقريبا لا ندري بما يجري حولنا حينها ولم يحصل شيء يثير الانتباه غير ما ذكر، ومر وقتنا الى الساعه الثانية بعد الظهر بين غداء وكلمات متقاطعة واخبار رياضية، عدنا الى المدرسة وتخلّف محمد مرخوص عنا بإذن لشعوره بالإرهاق قليلا، وفي المدرسة لم نجد احد حتى الجنود الذين كانوا في الصباح لم يأتوا مما سمح لنا بالخروج لمشاهدة ما يحدث، فكنا نرى تعبئة عسكرية متسارعة وحشود اليات ومدرعات وجنود بعضها تسير واكثرها في انتظار التعليمات وعلى اهبة الاستعداد.
يافاروق ايش في ؟!. يقول: هيّا فهّموا الكروت ، متى باتفهموا يابدو!. ويأخذ نفسه بعيد حتى لاينشغل بنا.
وعندما تزاحمنا في الشرفات لفتنا انتباه من في الاسفل فأشار الينا احد الضباط بالعودة الى الفصول وعدم الخروج حتى يأذن لنا، عدنا كل الى مكانه وبينما نحن كذلك جاء بن مرخوص يجري ، ولانه يجلس بجانبي في الفصل اتاني اولا واخذ مكانه
وقال : شي ماء ؟
قلت : ماشي ماء ، ايه جابك وانت مريض؟
قال بصوت خافت : ماحد كلمكم ؟
قلت : لا ايش في ؟
قال : سمعت الاذاعه الان .. شي ماء ؟
إنّا لله ، منين جيب لك ماء ؟
قال : حلقي يابس با ماء ،، المهم ماصدقت ان التأتأة تروح منه وقال سمعت الآن بيان في الإذاعة.
ايوه ايه فيه؟
قال : الجماعة حكموا على الجماعة بالإعدام !.
قلت : صل على النبي ايش تقول؟
يتلفت يمنة ويسرة ..
قال : والله سمعت بيان الآن يقول انهم حكموا بإعدام علي عنتر وصالح مصلح وآخرين ، والحركه هذه ماهي في خلاها.
إييييه بل ، يعمي بوك يابن مرخوص انته وخبارك هذه.
قال كيف ؟
قلت : سكته لا تكلم أحد بانشوف الناس وين راجعه .