الفن والثقافة.. بين عمق المجتمع وسطحية القيادة

كتب: أنيسة أنيس حسن
في مدنٍ عريقة تضرب جذورها في عمق التاريخ، وتزدهر بتراث غني وثقافة نابضة بالحياة والتنوّع والتعايش السلمي، تبدو المفارقة اليوم صارخة بين وجدان المجتمع وروحه الثقافية، وبين واقع القيادات الثقافية للدولة الموجودة في مراكز القرار.
هذا الواقع يثير القلق والأسى، لأن من يمسكون بزمام العمل الثقافي لا يمثلون هذا العمق، ولا يمتلكون الأدوات الفكرية أو المهنية التي تؤهلهم لحمل هذه الرسالة العظيمة.
الواقع الثقافي الحالي يشهد تراجعاً واضحاً، ليس بسبب نقص الإمكانيات أو غياب الطاقات، بل نتيجة واضحة لسياسات التعيين القائمة على المحسوبية، والتقاسم الحزبي، والانتماءات الضيقة، بعيداً عن الكفاءة أو المؤهلات الأكاديمية
لقد أصبحت المناصب الثقافية، في كثير من الأحيان، تُمنح كغنائم سياسية أو مكافآت شخصية، لا كمسؤوليات تستوجب الحنكة والرؤية والثقافة الواسعة.
في ظل هذا المشهد، لم تعد المؤسسات الحكومية الثقافية قادرة على تلبية أبسط متطلبات المجتمع، بل تعيق في أحايين كثيرة حتى عمل مؤسسات المجتمع المدني، من خلال التمييز والدفع لمن ليس لهم وجود مجتمعي ثقافي مؤثر، وتغييب الحقيقة، ومؤكدة بهذا تراجع البرامج التي تُعنى بالفنان والمثقف والهوية المحلية، بل تكرّست مساحات فارغة تُدار بأسلوب بيروقراطي لا علاقة له بروح الإبداع أو الانفتاح على المجتمع.
إننا بحاجة ماسة إلى قيادات ثقافية حقيقية، مؤمنة بدور الفن في بناء الوعي المجتمعي، ومدركة لأهمية الثقافة كركيزة للتنمية والهوية. نحتاج إلى من يرى الفنان والمثقف شريكاً أساسياً في بناء المستقبل، لا مجرد تابع أو صورة تزيينية في واجهة المراكز الحكومية.
فالمجتمع لا ينهض إلا بثقافته، والثقافة لا تزدهر إلا إذا وُضعت في يد من يحترمها ويؤمن بها، ويملك القدرة على إدارتها برؤية ومسؤولية. أما تركها لمن لا علاقة له بها، فإنما هو انتحارٌ بطيء لذاكرة المدن وروحها.
تشكل الثقافة الوجدان الجامع لأي مجتمع، وتُعد في الوقت نفسه دافعاً أساسياً وراء سلوكه. فهي تُسهم في تكوين الضمير الذاتي للفرد أو الجماعة، وهذا الضمير والوجدان معاً يُوجّهان السلوك ويؤطرانه، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمع ككل.
ويكمن مفهوم الثقافة في العلاقة الحسية والتعبير الإبداعي للفرد تجاه العالم المحيط به، بما في ذلك العوامل التاريخية والتراثية التي ينتمي إليها. فعندما يفقد الفرد صلته بالمجال الحيوي والعملي، يتعرض للموت المادي، وكذلك الأمر إذا انقطع عن المجال الثقافي، فإنه يواجه موتاً ثقافياً وروحياً.
وهنا يظهر دور الفنان كمرآة للمجتمع وروحه الحية، فهو من يُترجم الوجدان الجمعي ويمنحه شكلاً جمالياً يعبّر عن الهوية والذاكرة الجمعية. فالفنان لا يقتصر على التعبير الجمالي فقط، بل يُسهم في توثيق التراث، وإحياء القيم، ونقل التجارب الإنسانية عبر الأجيال.
ولذلك، فإن احترام الفنان وإعطائه القيمة الحقيقية، خاصة من يكرّس إبداعه في خدمة مجتمعه وموروثه الثقافي، هو جزء من احترام الذات الجماعية وصون الهوية الوطنية.
رئيسة مركز الفنون والثقافة والموروث الشعبي