سقط كل شيء إلا عدن..

كتب: عمر محمد العمودي
لم تسقط صنعاء قبل عشر سنوات، بل سقطت قبل ذلك بكثير.
سقطت سياسيًا حين تحولت إلى وكر عصابة تدير البلاد كما يتصرف لص بمحفظة مسروقة. سقطت أخلاقيًا عندما هتف الشارع لإلغاء الآخر، وهلل لوحدة رُسمت بالدم، وخُطّت بالبارود.
سقطت ثقافيًا حين اعتلت الأنا المنصة، وحين احتضنت كل من يجيد توقيع اسمه في كشوف المكافآت، وأقصت كل من رأى أن القصيدة لا تُشترى بشهادة تقدير أو مباركة من أب غير شرعي، ومن آمن بأن المشهد كله لا يساوي ظل هيثم.
ولذلك كان سقوطها باردًا، لأنه لم يكن إلا السقوط الأخير.
كانت هناك قصائد بلا دم، روايات بلا جلد، نقد أدبي بلا أسنان. وجمهور يصفق مثل حيوانات السيرك حين تعلو العصا.
في هذا الخراب الممتد لعقود، وقف رجل واحد فقط بشموخ واتزان؛ عبدالله البردوني. أعمى العين، فائق البصيرة.
من رأى أن الوحدة كانت فخًّا، وأن الوطن صار مسرحًا لمزاد سياسي رخيص. صرخ وحده، كان يرى، يفكر، بينما الآخرون يشحذون أدوات التصفيق.
لكن صوته دفن في الأدراج، طمسوا ما لا يعجبهم من رؤاه، وعبثوا بدوواينه التي لم يرغب أن تنشر، ثم عرضوها في مزادات بآلاف الدولارات، باعوا نزفه لمن يدفع أكثر، كما تباع أدوات الجريمة بعد إغلاق المسرح.
بعدما انتهى موسم السقوط الطويل، جاء موسم الطيران.
نفس الوجوه، نفس الشعراء، نفس الكوادر، ذات المشهد. لكن هذه المرة بربطة عنق أنيقة، وجوازات سفر ممولة.
لم يؤسسوا مركزًا ثقافيًا ، بل نفخوا قن الدجاج القديم، رشوا فوقه عطور Duty Free ووضعوا عليه لافتة “المركز الثقافي اليمني”! وبكل صفاقة صرخوا: هنا أدب اليمن.
اختاروا رئيسًا مفصلا على مقاس العرض، ليس أكبر من حفلة، مودل إعلانات ثقافي، أنيق، منبطح، يكفيه أن يحفظ أسماء الوزراء والسفراء، ولا حاجة له بقراءة كتاب واحد.
لماذا لم ينتقل هذا المشهد إلى عدن؟
لأن عدن لا تجيد النفاق، هكذا هي منذ الأزل.
عدن لا تحتفي بالشهادات الملفقة، ولا تعنيها الطبطبة.
في عدن مبدعون حقيقيون، لا يجيدون الزحف فوق السلالم الدبلوماسية، ولا يحسنون مداهنة الطباخين حين يرتدون عباءة رعاة الثقافة.
في القاهرة، لم يكن هناك أدب، ولا إبداع يمني، ولا حتى إنسان. هناك حركة نشطة للتلميع، حفلات توقيع كأنها حفلات زفاف تنتهي بطلاق مرير.
مهرجانات بلا جمهور، قاعات تنتظر لحظة الارتواء البصري حين تدخل روائية بفستانها البراق وكعبها العالي.
تعلو الأعناق لحظتها، تتسع حدقات الأعين، وتنتصب جميع الميكروفونات. ثم تبدأ عملية إعادة توزيع الكراسي: مقاعد الصف الأول لمن يملك أطول رقبة وأوسع بؤبؤ.
القصيدة ما هي إلا مرافقة للعرض، والرواية مجرد تذكرة لدخول المأدبة.
أما الجمهور، فهم أنفسهم. هم الجمهور والحضور معًا.
في تلك الفعاليات يتحول الصمت إلى لهاث، والتصفيق إلى تشبيك فيسبوكي حضاري بعد الأمسية.
أما توقيع الروايات فطقس جمركي آخر: “مرحبًا بك في نادي من لا يقرأ ولا يكتب”
لا أفهم من أين جاء كل هذا!
حتى أولئك الذين لا يملكون ثمن وجبة سلتة في مطعم شعبي، تجدهم يتبخترون في صالات المطارات الدولية، يزاحمون المرضى، ويثقلون الطائرات بكتبهم التي سيوقعونها في حفلات استعراضية بعيدًا عن هذه البلاد التي يتغنون بها.. يكفي أنهم يعرفونهم، شركاء مشهد السقوط الطويل.
لقد تغيرت العديد من الأشياء في المطارات بفضلهم، حتى الأسئلة على أبواب الطائرات تغيرت:
هل معك دعوة من السفارة؟
هل تعرف اسم السفير الرباعي أم تكتفي بلقب معاليه؟
هل تحسن الابتسام للكاميرا؟
من هو فنان اليمن الأول؟
هل تمتلك له صورة بعد زراعة شعره؟
في القاهرة، لم يعد الشعر يصرخ، لم تعد الروايات تبكي. كل شيء يمني معروض للبيع:
قصيدة مع مقبلات، رواية بتخفيض على مشروب، قراءة نقدية مع كوب عصير برتقال فاتر.
في البعيد، بل في القريب جدًا، هنا عدن تراقب، تنظر بصمت. لا تسجل مواعيد حفلات، ولا تحجز مقاعد في القاعات المكيفة.
تكتب في الظلام، تنقش كلماتها على جدران متعرقة، وتضحك بمرارة. ثم تبصق بهدوء في وجه من حمل حقيبته الكريستالية وهرب ليتسلق فوق جثة وطنه الذي يبدو كبيرًا من بعيد.
عدن، المدينة التي علمتهم الأبجدية، علمتهم كيف يكون الحرف طلقة، وكيف يكون النص جمرة، تجلس الآن فوق ركامهم، تطالعهم بنظرة واحدة:
نظرة احتقار.