مقالات وآراء

عدن في كتابات الرحالة البريطانية فريا ستارك

كتب: مسعود عمشوش

فريا ستارك (1893-1993) واحدة من أشهر الرحالة الغربيين الذين زاروا عدن خلال النصف الأول من القرن العشرين. وقد ألفت أكثر من ثلاثين كتابا سردت فيها الرحلات التي قامت بها إلى مختلف أقطار الشرق الأوسط بين سنة 1927 وسنة 1983، وكرّست أربعة من تلك الكتب، بالإضافة إلى عددٍ من الدراسات التي نشرتها في الدوريات العلمية المتخصصة، لتقديم بعض جوانب الحياة في عدن وبعض المدن اليمنية الأخرى.
وفي اعتقادنا تكتسب كتابات فريا ستارك حول عدن أهمية توثيقية كبيرة، إذ أنها تتضمن معلومات استخباراتية لن نعثر عليها في أي وثيقة تاريخية أخرى، لاسيما رصدها للأحداث اليومية في عدن خلال السنة الأولى من الحرب العالمية الثانية، التي تمَّ خلالها قصف المدينة بشكل عنيف من قبل القواعد الألمانية والإيطالية في القرن الإفريقي.
ومن الأسباب التي حفزتنا على دراسة كتابات فريا ستارك عن عدن: الأسلوب الفريد الذي استخدمته المؤلفة في تدوين رحلاتها التي ترجمت إلى معظم اللغات الأوروبية، الذي جعل كتبها من أروع ما ألف في أدب الرحلات باللغة الإنجليزية. ومن المعلوم أن فريا ستارك لم تكتف بقلمها، بل استخدمت كذلك آلة التصوير لتتمكن من جذب أكبر عدد ممكن من القراء. فهي قبل رحلتها الأولى إلى جنوب الجزيرة العربية قامت بشراء LeicaIII التقطت بها نحو 6000 صورة أصرت أن تظل جميعها باللونين الأسود والأبيض حتى بعد أن أصبحت الصور الملونة هي السائدة في الثمانينات من القرن الماضي. وقد ضمنت فريا ستارك كل واحد من كتبها الثلاثة الأولى عددا من الصور تبرز في بعضها بعض مناظر لعدن وسكانها.
في هذه الصفحات، تناولنا الصورة التي رسمتها فريا ستارك لعدن في أربعة من كتبها: (الشرق هو الغرب، 1945 East is West)، و(غبار في مخالب الأسد، 1961 Dust in the Lion’s Paw. Autobiography)، و(الرسائل Letters)، و(البوابات الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، 1936 The Southern Gates of Arabia).
– فريا ستارك وزياراتها لعدن (المسك بعصا الترحال):
على الرغم من أنّ فريا ستارك تحمل الجنسية البريطانية، فهي لم تقض في بريطانيا إلاّ جزءاً يسيراً من عمرها الذي تجاوز مئة سنة. أما معظمه فقد قضته في الترحال والاستكشاف. بل أن ولدتها كانت في باريس سنة 1892. وهناك عوامل عدة منها روح المغامرة دفعت بفريا بعيداً عن البيت والسفر إلى البلاد العربية. ففي نوفمبر من عام 1927 ركبت فريا ستارك السفينة باتجاه بيروت. وشرعت مباشرة في مواصلة دراسة اللغة العربية. وفي شهر مارس سنة 1928 انتقلت إلى دمشق التي دمرت قوات الاستعمار الفرنسي جزءاً كبيراً منها للقضاء على المقاومة العربية.
وفي نوفمبر من عام 1929، وصلت فريا ستارك إلى بغداد لأول مرة، ومنها شدّت الرحال إلى إيران للبحث عن خرائب (لامياسر)، إحدى قلاع الحشاشين في شرق إقليم لوريستان. في مطلع سنة 1934، قررت الرحيل لاستكشاف جنوب شيه الجزيرة العربية. وقد وصلت فريا ستارك إلى عدن لأول مرة في 19 ديسمبر من عام 1934. ومكثت في عدن نحو شهرا كاملا كتبت خلاله عددا كبيرا من الرسائل التي تصف فيها الحياة في عدن بشكل عام وفي مكاتب شركة البس بشكل خاص.
وفي نهاية يناير 1935، غادرت عدن إلى حضرموت على ظهر إحدى السفن التابعة للبس والمغادرة باتجاه المكلا. وبعد قضاء نحو شهرين في وادي حضرموت أصيبت فريا ستارك بمرض خطير، واضطر القوات الجوية البريطانية أن ترسل من عدن الجنرال دائث الذي هبط بطائرته العسكرية أمام شبام في 16 مارس 1935. وفي صباح اليوم التالي عادت فريا ستارك ممددة على نقالة إلى عدن حيث تم إسعافها في المستشفى لمدة أسبوعين، قبل عودتها إلى أوروبا في مطلع شهر إبريل من العام نفسه. وقد أهدت ستارك كتابها الشهير (البوابات الجنوبية لشبه الجزيرة العربية) لمنقذها الطيار دائث وسلاح الجو البريطاني في عدن.
وفي شهر أكتوبر من عام 1937 التقت فريا ستارك في القاهرة بعالمتي الآثار جيرترود كاتون- تومسون وإلينور وايت جاردنر اللتين طلبتا منها مرافقتهما في رحلة استكشافية لمعبد القمر في مدينة حريضة بحضرموت. وقد وصلت البعثة إلى عدن في 31 أكتوبر من عام 1937. وقد تحدثت فريا عن زيارتها الثانية هذه لعدن بشكل موجز في كتابيها (الشرق هو الغرب وشتاء في الجزيرة العربية).
الزيارة الثالثة:
من الواضح أن عدن خلال الزيارتين الأولى والثانية كانت بالنسبة لها مجرد محطة سفر، أما في المرة الثالثة فقد جاءت فريا ستارك إلى عدن في إطار مهمة رسمية كلفتها بها حكومة بلادها: العمل في أول مكتب نشر وإعلام في عدن الذي أنيطت به مهمة استخباراتية إضافة للترويج لانتصارات الحلفاء جنبا إلى جنب مع عدد من أجهزة الاستخبارات الأخرى، وإقناع الزعماء العرب بدعم الحلفاء أو إبقائهم محايدين، وكذلك معرفة نوايا دول المحور، وتقييم قواتها المرابطة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، ووضع آلية متطورة لجمع المعلومات المختلفة. وكتبت فريا ستارك أنه قد تم استدعاؤها من إيطاليا إلى لندن قبيل اندلاع الحرب، وسردت ذلك في أول فصول كتابها (الشرق هو الغرب)، قائلة: “في نهاية شهر أغسطس، غادرت منزلي بالقرب من البندقية، وجئت إلى لندن لأداء أية خدمة يمكنني تقديمها. وبسبب إلمامي باللغة العربية اختارتني وزارة الإعلام للعمل بصفة خبيرة [في شئون الشرق]. وبدأت العمل ضمن الدائرة الخارجية، في مقرات مؤقتة، اعتبارا من الرابع من شهر سبتمبر 1939، أي من ثاني أيام الحرب”.
وفي الحال تركت فريا لندن، وتوجهت إلى القاهرة. وفي مطلع شهر نوفمبر من عام 1939 كانت فريا ستارك على ظهر إحدى السفن العسكرية البريطانية المتجهة إلى عدن. وتم تعيينها مساعدةً للضابط ستيوارت بيراون مدير مكتب الإعلام في عدن. ومن أبرز المهام التي ذكرت فريا ستارك انها كانت تضطلع بها في عدن: الإشراف على توزيع النشرة التي يعدها المكتب، وإعادة صياغة الأخبار وترجمتها إلى العربية، وبثـّها بالراديو ومكبرات الصوت في مختلف ساحات عدن.
وبحكم إتقانها التام للغة الإيطالية، تطوعت ستارك للمشاركة في التحقيق مع البحارة الإيطاليين الذين تمّ القبض عليهم وحبسهم في عدن؛ وبينهم قبطان إحدى الغواصات الإيطالية التي تم تدميرها بالقرب من الميناء. وبفضل تحقيقها معه استطاعت أن تستخلص منه معلومات سرية حول سفينتين آخرتين كانتا تقتربان من الميناء، وقد تمّ إغراقهما أيضا. وتقديرا لإسهامهما في تلك التحقيقات منحتها وزارة الدفاع البريطانية بواسطة وزارة الخارجية في لندن شهادة تقديرية. كما منحتها ملكة بريطانيا وسام فارس الامبراطورية تقديرا لخدماتها تلك.
وفي شهر اغسطس سنة 1940 نُقلت فريا ستارك إلى مصر لتقوم بالمهمة نفسها بالإضافة إلى إصدار نشرة إخبارية دعائية أسبوعية تروج لانتصارات الحلفاء. وفي أكتوبر من عام 1947 تزوجت فريا ستارك، وهي في سن الرابعة والخمسين، من مديرها السابق ستيوارت بيراون، وحتى بداية الثمانينات لم تكف السيدة المسنة، فريا ستارك، عن الترحال متوكأةً على عصاها. اضطرتها الشيخوخة أن تقضي آخر عشر سنوات من عمرها، في بيتها في أسولو الإيطالية. وتوفيت فيه في الحادي عشر من مايو سنة 1993، بعد أن ألَّفت أكثر من ثلاثين كتاباً.

-رصد فريا ستارك لمظاهر الحياة في عدن:
من خلال قراءتنا لما كتبته فريا ستارك في رسائلها من عدن وكتبها التي ذكرناها يتبين لنا أنها كانت في جميع رحلاتها تسعى إلى الاقتراب من السكان المحليين، وتعلُّم لهجاتهم، وذلك بهدف رصد حياتهم اليومية وتقديمها للقارئ الغربي. وخلال زيارتيها الأولى والثانية لعدن لاحظت، مثل معظم الرحالة الذين مروا بالمدينة، أن ميناء عدن كان يكتظ بأناس من مختلف الأعراق. وقد التقت ببعض السكان العرب، لاسيما من عائلتي آل مكاوي وآل لقمان. وتبيّن لها مدى تأثر السكان العرب بالجاليات الأخرى والحياة الغربية المهيمنة في المدينة. ولاحظت أن العرب في عدن بدأوا في تغيير نمط حياتهم، وأن ذلك التغيير قد تجسّد في ظهور طبقة وسطى منهم، هي الأولى من نوعها على مستوى شبه الجزيرة العربية بشكل عام. وتؤكد أن علي لقمان يجسّد، في نظرها، نموذجا لأفراد تلك الطبقة الجديدة في الجزيرة العربية. لذلك، مثل بول نيزان الذي قال في كتابه (عدن العربية، 1932) إن عدن “صورة مكثفة لأوروبا”، باتت فريا ستارك ترى أن (الشرق هو الغرب -وهو عنوان أحد أهم كتبها).
وتصف فريا ستارك كذلك بعض السكان من ذوي الأصول الهندية والصومالية والفارسية وتعجب بهم، وتصف بعض عاداتهم. فهي تقدم مثلا بعض الطقوس الدينية التي يحرص الفرس على أدائها يوميا في عدن، ولا شك في أن فريا ستارك، مثل معظم الكتاب الغربيين الذين كتبوا عن الشرق، كانت تحاول أنْ تجذب القارئ من خلال تضمين كتبها بعض الأحداث والمشاهد الغرائبية، أو التي سيجدها القارئ الأوروبي غريبة على الرغم من واقعيتها. فهي تزور معبد الهندوس وسط عدن ومقبرتهم (برج الصمت)، وتؤكد أن الغربان هناك تحوّل جثة المتوفي منهم إلى هيكل عظمي في ساعة من الزمان.
وإضافة إلى السكان المحليين، تقدم فريا ستارك بعض عادات الجاليات الغربية المستقرة في عدن وتزور بعض أنديتها. وقد رافقها البس في جولات تسلق لجبال عدن وزار معها الفنار المطل على (ساحل جولدمور).
وبحكم طبيعة مهمتها شاركت فريا ستارك في تأسيس أول بث إذاعي عدن أسسه مكتب الإعلام البريطاني في عدن، عند اندلاع الحرب العالمية الثانية في مطلع سبتمبر 1939، ورصدت فريا ستارك كذلك البدايات الأولى للصحافة العربية في عدن، وقد قامت صحيفة (فتاة الجزيرة)، التي صدر أول أعدادها في يناير 1940، بنشر بعض المقالات المترجمة لفريا ستارك. كما شاركت (فتاة الجزيرة) في نشر كثيرٍ من المواد الدعائية للجيش البريطاني وجيوش دول الحلف الأخرى، طوال سنوات الحرب العالمية الثانية.
وضمّنت فريا ستارك كتابيها (الشرق هو الغرب East is West)، و(غبار في مخالب الأسد، سيرة ذاتية 1939-1946 Dust in the Lions Paw )، رصدا لعدد من للأحداث العسكرية التي شهدتها مدينة عدن خلال السنة الأولى من الحرب العالمية الثانية. ويُعد الكتابان من الوثائق التاريخية النادرة التي نجد فيها صدى لتأثير الحرب العالمية الثانية في الحياة اليومية في عدن. فالمؤلفة رصدت فيهما مشاعر السكان تجاه الانتكاسات التي مُنِيت بها فرنسا وبريطانيا خلال تلك الفترة، وذكرت كذلك أنّ كثيرا من سكان عدن قد سارعوا في مغادرة المدينة حتى قبل دخول إيطاليا الحرب في العاشر من يونيو 1940. وذكرت فريا ستارك أنّ السلطات البريطانية قامت بتلغيم ميناء عدن في نهاية شهر يونيو 1940، وألقت القبض على ثلاث غواصات إيطالية. وعند بدء تعرض عدن للغارات الإيطالية، كتبت فريا ستارك انها بادرت إلى اقتراح تشكيل ثلاث فرق من الشباب العرب للعمل التطوعي: حراسة الشوارع والمنازل أثناء الغارات الجوية الإيطالية. وفي نهاية الشهر (يوليو 1940)، بدأت فريا ستارك نفسها تفكر جديّا في مغادرة عدن، وسافرت فعلا إلى القاهرة للتشاور مع المسئولين الأمنيين هناك.
شخصيات من عدن في كتابات فريا ستارك:
أ‌- علي محمد لقمان:
من أهم أسباب نجاح فريا ستارك في رحلاتها الاستكشافية والاستخباراتية طريقة تعاملها مع السكان المحليين؛ وقدرتها على نسج شبكة من العلاقات الممتازة مع عدد كبير من الشخصيات كالتجار والسلاطين والحكام والوزراء والوجهاء و”المناصب” والمثقفين، وكذلك قدرتها على مخاطبة كل واحد منهم بالأسلوب الذي يفضله. وفي عدن، أعطت فريا ستارك اهتماما خاصا بشخصية الشاب علي محمد علي لقمان، الذي كان يعمل معها في مكتب النشر في عدن. وأكدت في كتابها (الشرق هو الغرب) أن علي لقمان كان “محور مكتب الإعلام ودعامته الرئيسة”،
ومن المؤكد أن فريا ستارك قد أعجبت بحماس علي لقمان ونشاطه وأناقته. وذكرت أنه كان يساعدها في تحرير النشرة العربية، ويناقشها في دلالات بعض الكلمات الإنجليزية ومدى ملاءمة الإيقاعات العربية للنصوص التي تُوظَّف للردّ على البروباجندا الإيطالية، وتُقدَّم على أنها الأخبار الصحيحة الوحيدة عن الحرب، وذلك لسكان عدن الذين يسمعونها في المساء، حينما يحتشدون، تحت ضوء النجوم في ميدان كريتر، (مرتلةً) بالصوتِ الجميلِ لقارئ مسجدهم، ومكبرٍ للصوت.
وفي الفصل الثالث من كتابها (الشرق هو الغرب)، عبّرت فريا كذلك عن إعجابها بثقة علي لقمان في البريطانيين، وحاولت أن تفسر تلك الثقة قائلة: “تدريجياً عثرتُ على ما يقف وراء ثقة علي: إنه يؤمن بما كنَّا نحارب من أجله. فبالنسبة له، كانت كلمات النصوص الهجائية المشحونة بالمعاني الصادقة كلمات حيَّة؛ فحتى الآن لم يكن لدى الإنسان العربي الوقت ليفكر في الكلمات من الزاوية الدعائية أو الترويجية، وهو لا يزال يربطها بوجود الله، بطريقة غامضة”.
ومن ناحية أخرى، من المؤكد أن فريا ستارك قد اكتشفت المواهب الأدبية التي يمتلكها الشاب علي لقمان، الذي في عام 1940 لم يكن قد نشر بعد أي نص شعري من تأليفه. وقد أعجبت كثيرا بطريقة صياغته للأخبار التي يبثها المكتب بالمذياع، وتقول إنه كان “يضفي شيئا من الحب على تحرير الأخبار اليومية، التي كنت ألتقطها من المذياع أثناء فطوري، في نثر عربي جميل”. ولا ريب في أن علي محمد لقمان قد تعاطف كثيرا مع فريا ستارك في زمن الانكسار البريطاني في جبهات القتال عام 1940، وبذل جهدا كبيرا في ترجمة قصائد ووردزورث الحماسية إلى العربية التي قدمتها له فريا ستارك. وقد قام مكتب الإعلام بنشرها في كتاب وَزّعَ منه ألفي نسخة في بضعة أيام.
ب‌- أنتونين بس:
ذكرنا أن فريا ستارك في زيارتيها الأولى لعدن اضطرت أن تنزل ضيفة على التاجر الفرنسي أنتونين بس، الذي أطلقت عليه لقب “ملك سواحل البحر الأحمر”، والذي قدَّم لها، هو ووكلاؤه المحليون المنتشرون في مدن حضرموت، كثيراً من التسهيلات. وفي صباح اليوم التالي لوصولها لعدن في 19 ديسمبر 1934، كتبت إلى أبيها الروحي هيربرت يونج رسالة قدمت فيها التاجر الفرنسي على النحو الآتي: “لقد نزلت في منزل جميل للغاية، وسأقيم فيه مدة ثلاثة أسابيع. السيد بس في غاية اللطف، وهو من صنف تجار ألف ليلة وليلة. طوال النهار لا يكفُّ عن استلام البرقيات من الهند وأمريكا وأفريقيا وأوروبا. وسفنه تجوب دون انقطاع هذه البحار، وستأخذني إحداها إلى المكلا. كما أن وكلاء البس موجودون في كل مكان؛ وقد أخبرني أنه سيوصيهم بالاهتمام بي في وادي حضرموت حيث يعيش كثير من أصدقائه المناوئين لسلطان المكلا. لهذا يبدو لي أن المحطة الثانية من رحلتي ستكون جميلة”.
وذكرت أن أنتونين بس قام بتسكينها في منزل ملاصق لبيته الحجري في مدينة [كريتر] عدن، ودعاها لتناول جميع الوجبات في مائدته. ولا شك أن فريا ستارك قد أعجبت بشخصية التاجر العصامي أنتونين بس، فهي كتبت تقول لأمها: “لديه شغف بكل شيء جميل. وهو في الواقع شخص جذاب، ومتسرع جدا، وينقاد دائما لحدسه”. وذكرت أنه دعاها إلى تسلق الجبال المحيطة بعدن برفقته؛ فبعد أن كان قد نصحها في البداية بصرف النظر عن الذهاب إلى حضرموت والبحث عن شبوة القديمة، باتَ يؤكد لها ثقته بنجاحها.
ولم تقطع فريا ستارك علاقتها بآل (البس) خلال إقامتها الأخيرة في عدن، في بداية الحرب العالمية الثانية، وذلك على الرغم من تأطيرها عمليا وعاطفيا من قبل مديرها ستيوارت بيراون. وأكدت، في كتابها (غبار في مخالب الأسد: سيرة ذاتية 1939-1946): “كنت أهرب [من التواهي] إلى كريتر، [مدينة عدن القديمة]، مرتين في الأسبوع، لأرى هيلدا بس، وزوجها أنتونين، ملك سواحل البحر الحمر، الذي ظل محتفظا بتألقه وطرافته وابتهاجه. وأخبرني أنه يشعر بالأسى لأنه لم يستطع، حتى في زمن الحرب، التوقف عن جمع الأموال التي أبت إلا أن تتكدس في خزائنه رغما عنه”.
ج- التاجر الفارسي فرامروز:
مثل كثير من الرحالة الأوروبيين، لاحظت فريا ستارك أن عددا من الهنود من ذوي الأصول الفارسية الذين قدموا إلى عدن من مومباي بعد وصول البريطانيين سنة 1939، استطاعوا أن يتحكموا في تجارة الجملة في عدن. وتمكنوا من بسط نفوذهم على التجارة الساحلية. وبدأت دكاكينهم، بواجهاتها المسقوفة، ومداخلها المعتمة، تزدهر، وتنتشر في شكل هلال، حول أرصفة الميناء الجديد [التواهي the Steamer Point]. ولا شك في أن ثمة توسع خطير تشهده التجارة الشرقية. وخطورة هذه التجارة لا تكمن في حجمها وأرقامها، بل في المدى التي تنتشر فيه: براً وبحراً. وعلى حواف فوهة البركان الخامد، بمحاذاة الخلجان المتلألِئة، تتضاعف ثروات العائلات الفارسية، بالوتيرة نفسها التي تنمو بها الحاجة لواحد من أهم الموانئ في العالم: عدن”.
ومن بين هؤلاء التجار الفرس ركزت على التاجر فرامروز (Framrose) الذي قدمته قائلة: “كان السيّد العجوز يترجرج بجسمه المترهل، وقلنسوته ذات الخطوط البيضاء والسوداء؛ إنه كبير مالكي السفن والتجار الفرس، الذين جاءوا إلى عدن، مع القوات البريطانية، عام 1839. لقد كانوا هم أول المقاولين الذين تعاقدوا مع الجيش البريطاني في ميناء عدن، الذي كان عبارة عن أرض بركانية معزولة، ومحطة لتزويد السفن المتجهة إلى الهند بالفحم، وذلك قبل أن يفكر أحد في شق قناة السويس. ولم تبلغ تجارة السيد فرامروز وعائلته هذا المستوى العالي الذي بلغته تجارة البس، ومع ذلك، فهو مثله مشغول دون انقطاع باستقبال التجار القادمين من أرض سبأ، والتجار الصوماليين شديدي السمرة والنحافة، القادمين من بربرة وجيبوتي”.
وتناولت فريا علاقة التعاون المتينة التي نشأت بين الحكومة البريطانية والتاجر فرامروز الذي لم يكف عن دعم السلطات في عدن معنويا وماديا. فهو، مثلا، قدّم أحد أجمل بيوته في التواهي دعما حربيّاً للحكومة البريطانية، التي مكنته -بفضل حمايتها- من جمع ثروته في هذه السواحل المكتظة بالقراصنة. وقد جعلت السلطات في عدن هذا البيت، الذي يطل على مشهد بانورامي للمرفأ، مقرا لمكتب الإعلام (Information office).

زر الذهاب إلى الأعلى