المشهد السياسي الجنوبي.. قراءة في توازنات القوة وإستحقاقات المرحلة

بقلم / كمال صلاح الديني
في مشهد سياسي بالغ الرمزية والتعقيد، شهدت محافظات الجنوب مؤخراً تحركات ميدانية لفرق من مجلس النواب اليمني، في خطوة أثارت ردود أفعال متباينة، وفتحت أبواباً جديدة للتأويل حول دلالاتها السياسية، وتداعياتها على القضية الجنوبية ومسار الحل السياسي الشامل في البلاد.
تأتي هذه الزيارات البرلمانية في وقت بالغ الحساسية، إذ يعيش الجنوب لحظة فارقة من حيث التطلعات الوطنية والمطالب المتزايدة بفك الإرتباط وإستعادة الدولة الجنوبية، وذلك في ظل واقع إقتصادي وخدماتي متدهور يضرب عمق المحافظات الجنوبية، ويعكس فشلاً مركباً في إدارة الملفين المعيشي والتنموي من قبل الحكومة الشرعية، وسط غياب المعالجات الجذرية وتصاعد حالة السخط الشعبي، وإستخدام الملف الإقتصادي والخدمي كأداة “حرب وإخضاع”.
لذا، فإن نزول فرق من البرلمان بقيادة الجناح التقليدي للشرعية لا يمكن قراءته بمعزل عن محاولات إستعادة رمزية “الدولة اليمنية الموحدة” في المناطق التي باتت في غالبيتها تحت سيطرة المجلس الإنتقالي الجنوبي وقوى جنوبية تطالب بتمثيل مستقل.
ففي ظل الإنقسام القائم وتآكل المشروعية الواقعية للمؤسسات المركزية، تسعى السلطة إلى تكريس حضورها الرمزي عبر أدوات كـ”البرلمان”، في محاولة منها لإبقاء الجنوب ضمن الإطار الدستوري اليمني، ولو بشكل صوري.
هذه التحركات تعكس أيضاً قلقاً متزايداً من أي مسارات تفاوضية محتملة قد تُفضي إلى الإعتراف بالجنوب كطرف مستقل على طاولة الحل النهائي.
اللأفت أن العاصمة المؤقتة عدن، معقل المجلس الإنتقالي الجنوبي والمركز السياسي والإداري للجنوب، كانت ضمن المحافظات المدرجة في خطة نزول البرلمان، ويُقرأ هذا القرار كإشارة رمزية شديدة الأهمية، تحمل في طيّاتها دلالة على سعي مدروس لإبراز حضور سيادي للدولة اليمنية في قلب العاصمة الجنوبية، وهو ما يُعد في نظر كثير من الجنوبيين إستفزازاً سياسياً ورسالة أحادية الجانب تتجاهل الواقع الجديد وميزان القوى القائم على الأرض.
كذلك لم تكن زيارة حضرموت هي الأخرى أقل حساسية من سابقتها في عدن، إذ تمثل المحافظة ساحة تنافسية بين قوى متباينة النفوذ والطموح، وتسعى السلطة المركزية والجناح التقليدي للشرعية من خلال هذه التحركات إلى إستمالة القوى الحضرمية، وإيصال إنطباع بأن حضرموت لا تخضع للمشروع الجنوبي الذي يتبناه المجلس الإنتقالي، بل تمثل حالة خاصة يمكن تطويعها في سياق ما يُسمى “بالدولة الإتحادية”، في محاولة للضغط والتهميش، وربما لإستغلال بعض الأصوات للدفع بإتجاه خيار “الإقليم الحضرمي المستقل” كبديل عن الإرتباط الكامل بالجنوب.
وهذا بحد ذاته يُعيد الجدل حول طبيعة ومستقبل التكتلات في الجنوب، ويضعف موقف الجنوبيين خارجياً ما لم يكن هناك توافق جنوبي–جنوبي واضح المعالم يحترم خصوصية المحافظات الجنوبية، وعلى رأسها حضرموت وعدن .
في السياق ذاته، برزت التحركات الأخيرة للقيادي الجنوبي صلاح الشنفرة، أحد الوجوه المؤثرة في مسيرة الحراك الجنوبي، والتي عكست حضوراً سياسياً لافتاً في محافظة الضالع.
تحركات الشنفرة، سواءً كانت بدافع شخصي أو بدعم من تيارات سياسية تتباين مع المجلس الإنتقالي الجنوبي، تعكس تصاعد الحراك السياسي في مناطق تُعد القلب النابض للمقاومة الجنوبية.
ومن وراء هذا التحرك تقف قوى سياسية وشخصيات تسعى لتأكيد أن الجنوب ليس محصوراً في تمثيله على جهة واحدة، بل يضم طيفاً واسعاً من القوى التاريخية، بعضها يشعر بالتهميش أو الإقصاء من المشهد الحالي.
تلك التحركات تُعيد طرح مسألة التمثيل السياسي والتوزيع العادل للسلطة داخل الجنوب، وتُسلّط الضوء أكثر على أهمية التوافق الداخلي لتقوية الموقف الجنوبي خارجياً.
من ناحية أخرى، فإن هذه التحركات تتزامن مع مساعٍ إقليمية ودولية لإعادة تشكيل الخارطة السياسية لما بعد الحرب، وهي محاولة مبكرة لترتيب مراكز النفوذ والسيطرة قبل الدخول في أية تسوية محتملة.
فالمعركة لم تعد فقط معركة بندقية، بل معركة رمزية وشرعية وتمثيل.
وفي خضم هذا المشهد، برز تحرك لافت لرئيس المجلس الإنتقالي الجنوبي، اللواء عيدروس الزبيدي، تمثل في زيارته الأخيرة لمصفاة عدن، وإطلاقه توجيهات مباشرة لإعادة تشغيلها كرافد إقتصادي إستراتيجي مهم للجنوب في المستقبل.
هذه الخطوة لا تخلو من أبعاد سياسية عميقة؛ فهي ليست مجرد تحرك إداري، بل تعكس إرادة واضحة في تثبيت معالم مشروع الدولة الجنوبية، من خلال إستعادة المنشآت السيادية وتحويلها إلى مؤسسات إنتاج، لا مؤسسات رمزية غير فاعلة على أرض الواقع.
فتلك البادرة تندرج ضمن محاولات إستعادة زمام المبادرة، وفرض الجنوب كلاعب محوري في معادلة المنطقة، لا مجرد تابع لها.
وفي ظل هذه المعادلات، يصبح مستقبل الجنوب مرهوناً بقدرته على التوازن بين إستثمار موقعه الإستراتيجي، وتوظيف ثروته، والحفاظ على قراره السيادي بعيداً عن التدويل أو التبعية.
إذ إنها تُعد فرصة سانحة للقوى الجنوبية لإعادة التموضع، وتكثيف الجهود نحو توحيد الرؤية الجنوبية، وترسيخ مطلب التمثيل كطرف مستقل في أي مفاوضات سياسية قادمة.
فالمرحلة القادمة ستتحدد فيها ملامح ما بعد الحرب، ومن لم يُثبت شرعيته ووجوده السياسي على الأرض، قد يُستثنى لاحقاً من أي دور.
إن التحولات الجارية في المنطقة، من بينها تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، وإنخراط قوى إقليمية في صراعات النفوذ داخل اليمن عموماً، وفي الجنوب على وجه الخصوص، يعزز من فرضية أن الجنوب لن يكون بمنأى عن تأثيرات هذا المشروع.
فمشروع الشرق الأوسط الجديد قد يفتح الباب أمام إعادة الإعتراف بالجنوب ككيان مستقل أو شبه مستقل، لكنه أيضاً يحمل في طيّاته مخاطر التبعية الإقتصادية والسياسية لقوى خارجية، تحت غطاء “الإستثمار” أو “الإعمار”.
في المجمل، يبدو أن الجنوب يواجه تحديات مركبة في ظل مشهد سياسي يزداد تعقيداً وتشظياً، حيث تتزاحم المبادرات والتحركات المتباينة، من تحركات البرلمان اليمني ومحاولات إعادة إنتاج حضوره من خلال مؤسسات فقدت جزءاً كبيراً من مشروعيتها، إلى تصاعد الفعل السياسي الجنوبي، وصولاً إلى المساعي الإقليمية لإعادة رسم خارطة النفوذ.
وجميعها تجري على وقع أزمة إقتصادية خانقة، وتطلعات جنوبية مشروعة نحو إستعادة الدولة.
وعلى وقع هذا التزاحم، يُنظر إلى كثير من تلك التحركات كمساعٍ لتجاوز القضية الجنوبية أو تحجيمها، ما يعزز الحاجة الملحة لرؤية جنوبية موحدة تفرض حضور الجنوب كطرف فاعل يمتلك شرعية الواقع ورهانات المستقبل….