اختبار الديمقراطية.. حضور المرأة المنقبة وإعادة تعريف الحرية والتمثيل السياسي

كتب : د. مريم العفيف
مقدمة:
في زمن تتسارع فيه الدعوات إلى تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، يُطرح أمامنا اختبار حقيقي لصدق هذه الشعارات، وهو حضور المرأة المنقبة في الفضاء السياسي. هذا الحضور ليس مجرد قضية مظهر أو ملابس، بل هو إعادة تعريف عميقة لمعنى الحرية والتمثيل السياسي في مجتمعاتنا.
فالمرأة المنقبة تمثل تحديًا لمفاهيم تقليدية كثيرة، لكنها في الوقت نفسه رمز لحق الاختلاف والتعددية التي يجب أن تحتضنها الديمقراطية الحقة. كيف يمكننا أن نؤمن بحرية الرأي والمشاركة السياسية، ونرفض في الوقت ذاته حرية المظهر والتعبير الذاتي؟
في هذا المقال، سنناقش هذه القضية من زاوية الكفاءة والهوية، لنثبت أن النقاب ليس حائلًا أمام العطاء السياسي، بل جزء من فسيفساء مجتمع ديمقراطي يحترم التنوع ويعطي لكل فرد حقه في التعبير والمشاركة.
—
المرأة المنقبة بين التحدي والتعددية
في مشهد متنوع يتقاطع فيه العمل السياسي مع الهويات الثقافية والدينية، تبرز المرأة المنقبة كحالة جدلية تختبر حدود الانفتاح المجتمعي ومفاهيم التعدد والتعايش. ولعل الإشكال لا يكمن في “النقاب” كغطاء مادي، بل في التصورات المسبقة التي غالبًا ما تختزل المرأة المنقبة في صورة جامدة، دون الالتفات إلى عقلها وكفاءتها ودورها الفاعل في المجتمع.
هذا الاختزال يحمل في طياته نوعًا من الإقصاء غير المعلن، ويقفز على مبدأ أساسي في العمل السياسي الحديث، وهو التعدد واحترام الخصوصيات.
إنّ البيئة المجتمعية المحافظة، وخاصة في الدول الإسلامية أو ذات الغالبية المسلمة، تستوعب التنوع في أنماط الحجاب والالتزام الديني، وتتعامل معها كجزء من النسيج المجتمعي، لا كحاجز أمام الانخراط في الفضاء العام. لذلك، فإن خروج المرأة المنقبة للعمل السياسي لا يُعدّ أمرًا شاذًا في هذه السياقات، بل امتدادًا طبيعيًا لحضور المرأة في مواقع التأثير، طالما أنها تحمل كفاءة فكرية، ونضجًا اجتماعيًا، وقدرة على المساهمة في صياغة السياسات العامة.
—
الوصاية على حرية المظهر: تناقضات الديمقراطية
ومن المؤسف أن يُقابل هذا الحضور أحيانًا برأيٍ معارضٍ للنقاب، ليس بدافع وظيفي أو تنظيمي، بل نتيجة رأي شخصي أو قناعة أيديولوجية. وهنا تبرز المفارقة: كيف لمن يؤمن بالديمقراطية والحريات أن يمارس نوعًا من الوصاية على حرية اللباس أو المظهر الديني للآخرين، خاصة إذا كانت المرأة المنقبة ملتزمة بقواعد العمل المؤسسي، وتحترم ضوابط المجال العام؟
أليس من الأجدر تقييم الأداء السياسي للمرأة بناءً على قدرتها على الإنجاز، وعمق رؤيتها، ونزاهة تعاملها، لا على خيارها الشخصي في تغطية وجهها؟
إنّ أي استحقاق سياسي لا يُفترض أن يكون مرتهنًا للمظهر، بل للقدرة على خدمة الناس، وقراءة الواقع، وصناعة القرار الرشيد. وبالتالي، فإن من حق المرأة المنقبة أن تُمنح المساحة الكاملة لتُعبّر عن نفسها، وتنافس على أساس الكفاءة والإنجاز، لا أن تُقصى باسم “التحرر” أو “التنوير” أو حتى باسم “اللياقة المؤسسية”، في حين أن تلك اللياقة تعني احترام الآخرين، لا تشكيلهم من جديد حسب قوالب ضيقة.
—
البروتوكول المؤسسي واحترام الخصوصية
من المهم التذكير هنا أن البروتوكول المؤسسي، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، يستند إلى مبدأ احترام الخصوصية الثقافية والدينية للأفراد، رجالًا ونساءً. وعليه، فإن من مقتضيات العمل المؤسسي السليم وجود بروتوكول واضح في التعامل مع المرأة، وخاصة المرأة المنقبة، يراعي عدم فرض سلوكيات غير مرحّب بها، مثل المصافحة أو القرب الجسدي أو تجاوز حدود اللياقة المهنية.
فالمصافحة، وإن كانت شائعة في بعض الثقافات، فإنها تُعد من المحظورات الشرعية والأخلاقية لدى شرائح واسعة من النساء المسلمات، ولا يجوز التعامل معها كاختبار للاندماج أو حسن النية.
بل إن البروتوكول العالمي، في المؤسسات والمنظمات الدولية، أصبح أكثر وعيًا بهذه المسألة، إذ يُوصى بعدم المبادرة بالمصافحة، وترك حرية القرار للطرف الآخر، احترامًا لثقافته وقيمه. هذا المبدأ يُطبق على الجميع دون تمييز، سواء كانت المرأة منقبة، أو محجبة، أو حتى غير مسلمة تنتمي لثقافة تُقدّس المسافة الشخصية. فالعبرة هنا ليست بالدين فحسب، بل بمبدأ عالمي جوهره الاحترام.
—
الخاتمة
إن المرأة المنقبة لا تطلب تمييزًا، بل تطالب بإنصاف. تطالب بأن تُحترم خياراتها الشخصية كما يُحترم لباس الأخريات، وأن تُقيّم بناءً على عقلها وموقفها السياسي وأثرها الاجتماعي، لا على النقاب الذي ترتديه.
وإن كانت البيئة السياسية تطمح لأن تكون بيئة تمثيل حقيقي للتنوع، فلا بد أن تشمل هذا التمثيل كل النساء، بمختلف أشكال تعبيرهن عن الذات.
المرأة المنقبة لا تطلب استثناءً، بل استحقاقًا. استحقاق أن تُعامل كأي مواطنة تمارس حقها في الانتماء والمشاركة دون أن يُشترط عليها نزع شيء من قناعاتها. إن النقاب ليس عائقًا أمام الكفاءة، ولا حاجزًا أمام المشاركة، بل هو جزء من فسيفساء هذا الوطن.
وقد آن الأوان لتدرك القوى السياسية كافة أن الحقوق لا تتجزأ، وأن تحرير المرأة لا يعني بالضرورة كشف وجهها، بل احترام إرادتها، مهما اختلفت عن السائد. وأن تمثيل النساء الحقيقي يبدأ من تمثيل جميع النساء، لا فقط من تُرضي صورتهن الذهنية العامة.
وختامًا، فإن من تقف اليوم بنقابها وسط هذا الزحام الرمزي، لا تطلب استثناءً، بل تُمارس حريتها. وتُذكّر الجميع أن أول شروط الديمقراطية: أن نحتمل المختلف، لا أن نحجبه.