مقالات وآراء

رحلة الإنسان بين الذات والآخر في فضاء القيمة..كفن إنساني وجودي

بقلم: د. مريم العفيف

في عمق كل تبادل تجاري، يكمن شيء يتجاوز السلع والأثمان. هناك حوار صامت بين الذات والآخر، عملية اتصال غير منطوقة تُختبر فيها القيم، وتُختزل فيها تجارب الإنسان وتطلعاته الوجودية. إن التجارة، في جوهرها، ليست مجرد فعل بيع وشراء، بل رحلة إنسانية تستبطن وعينا، وتكشف ما لا نقوله عن أنفسنا، وما نبحث عنه في الآخر.

التجارة كمرآة للعلاقة الإنسانية

كل صفقة تُعقد، هي لقاء بين ذاتين؛ الأولى تقدم شيئًا من جهدها، والثانية تستجيب بما تراه معادلًا لهذا الجهد. لكن ما يُبادل ليس فقط مالًا أو سلعة، بل اعتراف، وتقدير، وربما توق إلى فهم الذات عبر الآخر. تمامًا كما أشار هيجل إلى أن الوعي لا يكتمل إلا بالاعتراف المتبادل، فإن التاجر والمشتري كلاهما يسعى لأن يُرى، أن يُفهم، أن يُقدَّر.

ليست القيمة ما يُكتب على البطاقة، بل ما يتولد بين الطرفين حين يلتقيان في مساحة احترام متبادل. إنها تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان بأن له مكانًا في هذا العالم، وبأن ما يملكه – من مهارة أو منتج – له معنى، وله من يقدّره.

التأثير النفسي الخفي في أعماق التبادل

التجارة تُفعّل في النفس صراعاتها القديمة: بين الرغبة والواجب، بين الطموح والجشع، بين الحاجة إلى الكسب والحفاظ على القيم. ليس التاجر وحده من يُختبر، بل حتى المشتري، حين يقف أمام خياره: أن يُنصف أو يستغل، أن يُفاوض بشرف أو يُراوغ بدافع الهيمنة.

إنها مسرحية بشرية شديدة التعقيد، لكنها يومية، عادية، متكررة حتى الملل… ومع ذلك، تحتفظ بسرها العميق: في كل بيع وشراء، يُعاد تشكيل الإنسان، يُقوَّم داخليًا، ويُحدَّد موقعه في خارطة القيم.

حين تصبح التجارة حاملة للكرامة أو لندوب الغبن

في المجتمعات التي تُمارس فيها التجارة بعدالة، يشعر الإنسان بأن كرامته محفوظة، وأنه ليس مُجرد رقم أو أداة. أما حين تتسرب أنياب الجشع إلى الأسواق، وتُمسخ التجارة إلى سباق نحو الربح الأعمى، تبدأ الكرامة بالانحسار، وتتحول العلاقة من تفاعل إنساني إلى استغلال صامت.

ولعل أبسط مثال على ذلك هو حال الحرفي الذي يصنع بيديه ما يُعبّر عنه، لكن السوق لا يعترف بقيمته. وحين تُساومه الأرواح الباردة على جهد قلبه، يشعر بالاغتراب. فالمال وحده لا يُشبع الكيان الإنساني، بل الشعور بالاعتراف، والعدالة، والتقدير.

الفن الكامن في التجارة

هنا تصبح التجارة فنًا، لا لأنها تُمارس ببراعة، بل لأنها تُعبّر عن الإنسان. إن التاجر الحقيقي ليس من يُتقن الحسبة فقط، بل من يفهم أثر الصمت، ووقع الكلمة، وقيمة الثقة. هو من يعرف أن كل تعامل هو بناء علاقة، وكل صفقة هي فرصة للسمو أو للسقوط.

بهذا المعنى، فالتجارة ليست مهنة، بل فن إنساني وجودي. تتجلى فيها قدرة الإنسان على خلق الجسور أو تحطيمها، على منح المعنى أو سلبه، على الإثراء لا بالربح فقط، بل بالكرامة المتبادلة.

ختامًا: حين تتحول الأسواق إلى مساحات للروح

قد نعتقد أن الأسواق أماكن صخب وبيع، لكنها – في جوهرها – ساحات اختبار للإنسان. ففي كل تفاوض، يسأل الإنسان نفسه: من أنا؟ ماذا أقدّم؟ كيف أرى الآخر؟ وكيف أُحب أن يُراني؟

والإجابة ليست دائمًا لفظية، بل تُقال من خلال التفاصيل الصغيرة: طريقة التعامل، الصدق في القول، الاحترام في الاختلاف، والكرم في العطاء. بهذا، تصبح التجارة فعلًا روحيًا، مساحة تتجلى فيها إنسانيتنا.

فليست القيمة في ما نبيعه أو نشتريه، بل في ما نزرعه من أثر، وما نتركه في الآخر من شعور.

زر الذهاب إلى الأعلى