مقالات وآراء

التحول الصامت… من يُحرّك خيوط التغيير خلف الكواليس؟

بقلم / كمال صلاح الديني

 

ليس من المعتاد أن يهبط سعر صرف الدولار الأمريكي أمام الريال اليمني في مناطق الحكومة الشرعية، بهذه السرعة وبهذه الحدّة دون مقدمات اقتصادية تبرّر هذا التراجع المفاجئ، إلا إذا كان الأمر متّصلاً بتحوّل سياسي يجري التمهيد له بصمت، فعندما تغيب المؤشرات الإنتاجية، وتظل مستويات الإنفاق على حالها، وتستمر الأسواق في طابعها التضخمي، دون أي إعلان عن وصول وديعة جديدة أو دعم مالي مباشر، فإن أي تحسّن مفاجئ في قيمة العملة الوطنية لا يمكن تفسيره إلا باعتباره انعكاساً لحراك غير اقتصادي، تُحرّكه أطراف فاعلة في الملف اليمني ضمن ترتيبات محسوبة، تُستخدم فيها الأدوات المالية كإشارات لمرحلة انتقالية مرتقبة…

 

وانطلاقاً من هذا الفهم، يمكن قراءة ما جرى في سوق الصرف بعدن باعتباره قراراً سياسياً لا اقتصادياً، اتُّخذ في مستويات أعلى من تلك التي تدير الشأن المالي المحلي، ونُفّذ في إطار تفاهمات دولية، قد يكون للولايات المتحدة دور غير مباشر فيها، عبر وزارة الخزانة أو عبر مؤسسات استشارية وأمنية واقتصادية متخصصة، كــ “K2 Integrity”، فإن مثل هذه الجهات لا تكتفي بالدعم الفني التقليدي، بل تقدم تقييمات ومقترحات ترتبط بالأمن المالي ومكافحة الفساد، وتتداخل أدوارها مع سياقات النزاع وإعادة تشكيل السلطة…

 

غير أن هذا التحرك لم يمر دون مقاومة، فقد قوبلت إجراءات تصحيح سعر الصرف، وفرض القيود على المضاربة، برفض واضح من قبل عدد من التجار والصرافين النافذين، وفي مقدّمتهم مجموعة هائل سعيد أنعم، التي أصدرت بياناً تذرّعت فيه بأسباب ظاهرها فني، وباطنها دفاع عن امتيازاتها التي راكمتها في ظل غياب الرقابة والفوضى المؤسسية، وتُعد هذه المجموعة، مع غيرها من شبكات المال المتغلغلة في مفاصل الدولة، من أبرز أدوات “الدولة العميقة” التي لطالما عطّلت أي إصلاحات تمسّ بنية النفوذ الاقتصادي القائم، والذي تشكّل على مدى عقود من التزاوج بين السلطة ورأس المال، على حساب المصلحة الوطنية العليا…

 

ويأتي في السياق ذاته، إعلان إعادة تشغيل مصافي عدن بعد سنوات من التعطيل شبه الكامل، ليُشكّل دلالة سياسية لا تقل أهمية… فالمصفاة، بما لها من رمزية سيادية واقتصادية، لم يكن تعطيلها مجرد خلل تقني، بل خيار سياسي اتُّخذ لسنوات بغرض الإبقاء على المركزية الخانقة، وتكبيل الجنوب بمصادر الطاقة الخارجية ، واليوم فإن إعادة إحيائها لا تعني فقط استئناف نشاط صناعي، بل هي بمثابة كسر لحالة الإرتهان، وبداية استعادة القرار السيادي الاقتصادي، تمهيداً لإعادة بناء القواعد التحتية على أسس جديدة، تُقلّص من التبعية، وتعزّز من حضور المؤسسات الوطنية في إدارة الطاقة والمال.

 

وإذا كان لهذه الإجراءات أن تُحتسب للحكومة، فإنها تبقى خطوات أولى في طريق طويل وشائك، لا يمكن اجتيازه ما لم تُرفد بأدوات اقتصادية وهيكلية تعالج جذور التشوهات، بعيداً عن المعالجات الشكلية أو الضبط الإداري الظرفي، فالمخاوف قائمة من انزلاق هذه الإصلاحات إلى نموذج من الاقتصاد الموجَّه، الذي يُقيّد السوق ويُضعف الثقة، ويزرع أجواء الريبة بدلاً من الإستثمار.

 

اللافت أن رئيس الوزراء الحالي قد تحرّك، لأول مرة منذ سنوات، خارج عباءة التوافقات التقليدية، وخارج دوائر المصالح المشتركة بين الحكومة ورجال المال، وهي خطوة تُحسب له، رغم أنها لم تمر دون ضجيج، فقد قوبلت بحملات تشويش وإرباك إعلامي ممنهجة، تقودها أطراف متضررة تسعى إلى إبقاء القرار الإقتصادي أسيراً في يد جماعات الضغط المالي والنفوذ.

 

وما يُضفي على المشهد بُعداً أكثر وضوحاً، أن هذه الإجراءات لم تكن بمنأى عن الحراك الشعبي، بل جاءت على وقع إحتجاجات إنفجرت في مدينة المكلا، وأحدثت هزة سياسية غير مسبوقة، فقد خرج الشارع الحضرمي مطالباً بإقالة السلطة المحلية، وإستعادة الثروة والقرار، ووضع حدٍّ لحالة التهميش والفساد. هذه الانتفاضة، التي انطلقت من مدينة طالما عُرفت بهدوئها، دفعت مراكز القرار إلى إعادة النظر في حساباتها، ومحاولة امتصاص الغضب ولو بشكل مؤقت… ومن هنا، يمكن فهم التحسّن المفاجئ في سعر الصرف كجزء من استجابة غير معلنة لتلك المطالب، ومحاولة لشراء الوقت.

 

وفي هذا الإطار ، لا يُستبعد أن يكون ما يجري من تحركات اقتصادية وإدارية جزءاً من تمهيد أوسع، يراد له نهاية لمسار الوصاية الدولية، ورفع البند السابع عن اليمن، كمقدمة لإعادة الاعتبار للقرار السيادي المحلي، فبعض المؤشرات الدبلوماسية، والتغيرات في نبرة الخطاب الدولي، توحي بأن ثمة رغبة متزايدة لإغلاق هذا الملف، ونقل الملف اليمني من دائرة التدخل إلى إطار الشراكة…

 

جميع المؤشرات تُجمع على أن المسرح يُهيّأ لتحوّل سياسي آتٍ، بقيادة جديدة قد تكون في طريقها للظهور، أو تحالفات يُعاد تشكيلها خلف الكواليس، أو تسوية يُراد فرضها كأمر واقع، وربما تكون المرحلة القادمة مصحوبة بتغييب تدريجي لبعض الأسماء أو القوى من المشهد، ضمن ترتيبات تُعيد رسم الخارطة السياسية بالعموم، وما نشهده من تحسينات مالية، أو قرارات جزئية، لا يعدو أن يكون مقدمة لهزّة أكبر لم يُكشف عنها بعد…

زر الذهاب إلى الأعلى