“بداية النهاية: الجنوب في مرمى الحسم

بقلم / كمال صلاح الديني
تتشابك خيوط الواقع السياسي والإقتصادي الراهن بين رصاص ٍ في شوارع تريم بحضرموت وإرتباكٍ في مكاتب كبار التجار والمضاربين، لتكشف أن ما يجري ليس مجرد أحداث متفرقة، بل حلقات متصلة من صراع يضرب جذور الدولة العميقة في الأمن والمال معاً…
فالتوجه نحو إعادة هيكلة النفوذ في مناطق الجنوب وإن جاء متدرجاً، بدأ يلامس مصالح مراكز القوى التي بنت سلطتها على مزيج من السيطرة العسكرية والمناورة الإقتصادية…
فالقمع الذي تشهده تريم ليس إلا انعكاساً عصبياً لهذا المسار، رد فعل من أذرع تدرك أن قبضتها تتراخى وأن الأرض بدأت تميل من تحت أقدامهم…
وتريم، ومعها وادي حضرموت لا يمكن أن يُتركا فريسة لبطش المنطقة العسكرية الأولى، التي تحولت إلى أداة لضبط الإيقاع الأمني والعسكري بما يخدم مصالح مراكز القوى في صنعاء وحلفائها الإقليميين…
فهذه السيطرة لم تكن يوماً مجرد حضور عسكري داخلي، بل جزء من منظومة نفوذ متشابكة، استخدمتها أطراف شمالية مدعومة من قوى إقليمية مؤثرة، لإبقاء الوادي كورقة مساومة في معادلات التوازن بين صنعاء وعدن، وبين نفوذ الشرعية والحوثي، وفي حسابات تتجاوز حدود اليمن إلى ساحات القرار الإقليمي ..
وفي قلب هذا الصراع، تطفو على السطح معركة أخرى أقل صخباً لكنها لا تقل ضراوة، ألا وهي الحرب الإقتصادية متمثلةً بمنظومةٍ مالية وتجارية إنتهازية متغلغلة في مفاصل السوق اليمني لعقود، سيطرت على إستيراد السلع الأساسية وتلاعبت بأسعارها وشكلت من خلال شبكاتها أداة نفوذ سياسي و إقتصادي تخدم بقاء مراكز القوى التقليدية ..
هذه المنظومة ازدهرت في بيئة إنهيار الريال، حيث كانت الفوضى النقدية والمضاربة بالعملة تمنحها أرباحاً مضاعفة وتوسّع قدرتها على التحكم في السوق، خصوصاً في الجنوب الذي ظل رهينة لتلك الشبكات طوال ثلاثين عاماً مضت …
التعافي المفاجئ للعملة خلال الأسابيع الماضية كان بمثابة الصاعقة لهذه المصالح المتشعبة ،
لم يكن الأمر مجرد إرتفاع في قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية بل ضربة مباشرة لإقتصاد الظل القائم على المضاربة والتلاعب بالإستيراد، وهو إقتصاد وفّر على مدى سنوات شرياناً مالياً يغذي نفوذ الدولة العميقة ..
فالانخفاض الحاد في سعر الصرف قطع جزءاً من هذا الشريان، ووجه رسالة واضحة أن البنك المركزي بدعم سياسي دولي (أمريكي) قادر على تحريك الأرض من تحت أقدام من كانوا يعتقدون أن المال يسبق القرار…
في هذا الإطار، لا يمكن إغفال التخادم والتشابك الحاصل بين الدولة العميقة وأذرع الحوثي، إذ يستفيد الطرفان من بقاء منظومة الفساد والنفوذ، كلٌ بطريقته في محاولةٍ للحفاظ على مصالحهما وتقاسم السلطة عبر تحالفات غير معلنة، ما يعقد المشهد السياسي والإقتصادي في اليمن ويزيد من صعوبة إحداث تغييرات جذرية…
بالنسبة للجنوب وقضيته، فإن هذا المشهد يفتح نافذة إستراتيجية ، فالمظاهرات في حضرموت وما واجهته من قمع تكشف للرأي العام حجم التمسك العسكري بمناطق النفوذ، فيما التطورات الإقتصادية تكشف حجم التشابك بين السلطة المالية والسلطة العسكرية في إدامة التبعية التي عانى منها الجنوب ..
وعندما تُضرب هاتان السلطتان في توقيت متزامن، فإن هامش الحركة أمام المشروع الجنوبي يتسع، ويصبح ممكناً أن تتحول هذه الإرتباكات في معسكر الخصوم إلى فرصة لإعادة صياغة موازين القوى سياسياً وإقتصادياً…
لكن هذا الطريق ليس مفروشاً بالورود، فالقوى التي خسرت جزءاً من أرباحها أو مواقعها لن تستسلم، وستحاول إستثمار كل هزة أمنية أو سياسية لإعادة فرض شروطها…
لذلك، فإن رهان الجنوب ينبغي أن يكون على تثبيت هذه التحولات الإقتصادية وربطها بإصلاحات سياسية تضمن بقاء المكاسب، وتحول التعافي المالي من رقم عابر في بيانات البنك المركزي إلى واقع ملموس في حياة المواطن، بما يقطع الطريق على عودة شبكات الدولة العميقة، سواء كانت تحمل بندقية أو دفتر حسابات…
وبين بيان أمريكي يحتفي بالإصلاحات الإقتصادية، ومظاهرة حضرمية تُواجه بالقمع، تتشكل ملامح مرحلة إنتقالية حادة، تُسقط فيها بعض الأذرع وتقاوم أخرى حتى الرمق الأخير، فيما الجنوب وقضيته يظلان في قلب المعادلة، يسعيان لتحويل ارتباك الخصوم إلى فرصة لبناء واقع سياسي وإقتصادي جديد، يطوي صفحة إرث الدولة العميقة، وينهي زمن الوصاية، ويعيد للناس حقهم في القرار والثروة معاً…