مقالات وآراء

رسالة طويلة إلى جبران

كتب د.مريم العفيف

يا جبران أيها العزيز ..

أكتب إليك لا بقلمٍ من حبر، بل بمطرٍ يطرق النوافذ، كأن السماء تخلّت عن كبريائها وأرسلت دموعها لتكتب عنّا. المطر هذه الليلة ليس حدثًا مناخيًا، بل طقسٌ روحي، يشبه بكاء الأرض حين تفقد أبناءها. كل قطرة تسقط تحمل اسمًا لم يُذكر، سرًّا لم يُكشف، وجعًا لم يُعترف به. وكأن السماء تقرأ عنّا بصوتٍ مبلل ما عجزنا نحن أن نقوله.

كل شيء يا جبران يمكن أن يُمنح فرصة ثانية: الحبّ حين يتطهّر، الخطأ حين يُغفر، الخيانة حين تندم، حتى الموت حين يتحوّل إلى ولادة أخرى. إلا الثقة. إنها كائن هشّ، إذا انكسر لم تُجدِه كل محاولات الترميم. لا تعود، لأنها ليست فكرة بل روحًا عارية سُلّمت بلا شروط. فإذا انكسرت الروح، فمن يُعيدها إلى الحياة؟

لقد كنتَ تعرف هذا قبلنا: الثقة ليست عقدًا بين عقلين، بل عبورًا بين روحين. فإذا انهار الجسر، لم يبقَ سوى الهاوية. والهاوية يا جبران لا تُبنى فوقها جسور جديدة، لأنها تبتلع كل محاولة، وتظل جرحًا مفتوحًا لا يلتئم.

وأنا — صدّقني — لا أهجر أحدًا. لكنني أتغيّر. أتغيّر حتى يصير مَن يعرفني غريبًا وهو جالس أمامي. ليس تغيّرًا في الكلمات أو الملامح، بل في العمق الذي لا يُرى. كأنني أرحل إلى طبقات جديدة من نفسي، أهاجر داخلي، أختبئ في منافي صامتة، تاركًا الآخرين يبحثون عنّي في خرائط قديمة.

ومنذ يومين أو ثلاثة، يطاردني لحن حزين لإبراهيم تاتلس. أنا الذي هجرت الأغاني منذ زمن، ولم أعد أسمح لروحي أن تسمع إلا ما كان نقيًّا كينبوع، عتيقًا كمدينة غارقة في التاريخ، عظيمًا كحضارة لم تُمحَ آثارها. ومع ذلك يعود هذا اللحن بإصرار، يتكرّر، يقتحم صمتي. أهو مصادفة؟ لا، ليست مصادفة. هو رسالة، هو مرآة، هو ظلّ موسيقي يرافقني ليترجم ما لا تترجمه الأبجدية.

صوته يا جبران ليس مجرد غناء، بل مقام سماع. حين يبدأ، تنفتح في الروح أبواب لم تُفتح من قبل. صوته ليس حنجرة، بل صرخة كونية تحمل في نبرتها وجع الأرض وأنين التاريخ ورجفة الروح. تسمعه العيون قبل الأذنين، تسمعه الجروح قبل القلب. إن صوته قوة أسطورية، يأخذ المستمع من العالم إلى ما وراء العالم، كما يأخذ الصوفي في حضرة السماع إلى حال الغيبة والفناء.

حين يصعد بصوته، كأن الروح تترك الجسد وتطير إلى علياء لا تُحد. وحين ينخفض إلى القرار، كأن الأرض تُذكّرنا بثقلنا، بحقيقتنا الترابية، بحزننا الساكن في الأعماق. في صوته برق ورعد معًا، فيه انكسار وقيام، فيه شجنٌ قادر على أن يحوّل الدموع إلى صلاة.

يا جبران، صوته هذا أسرني كما تأسرني عدن، معشوقتي الخيالية التي لا تشبه مدينة، بل تشبه أسطورة خرجت من كتاب لم يُكتب بعد. عدن يا جبران ليست مكانًا جغرافيًا بل مكانًا في الروح. هي بندر البحر الأول الذي يفتح ذراعيه كأمٍّ بدائية، وهي الجبل الذي يحرس الأحلام كقدّيسٍ نائم، وهي الأزقة التي تعرف أسرار العشاق وتخفيها بين جدرانها. عدن هي المدينة التي تفوق المدن، الفردوس الذي ضاع من التاريخ وبقي في المخيّلة.

كلما ناداني صوت إبراهيم، شعرت أنني أعود إليها، أن اللحن يفتح أبوابها، وأن المطر ينزل كأنما يغسل موانئها القديمة. عدن يا جبران هي معشوقة لا تُوصف، كل من رآها عرف أنه لا يغادرها، حتى لو غادر جسده أرضها. إنها ليست مدينة، بل أنثى أسطورية، عيناها بحر، صدرها جبل، وابتسامتها ميناء.

ولو رأيتني وأنا أستمع إلى صوت إبراهيم والمطر يهطل، لظننت أنني جالس في عدن، تلك التي لا تنام، تلك التي تُشبه حلمًا ممتدًا على الأفق. صوته يفتح أبوابها، والمطر يبلل شوارعها، والروح تجلس على شرفاتها القديمة تتأمل الأبد.

السماء تهطل كأنها استعارت دموعنا. المطر ليس ماءً، بل اعترافٌ علني. كل قطرة تكتب جملة على الأرض، وكل جملة نصّ خفي لا نراه إلا بالقلب. المطر يا جبران هو أبجدية أخرى: أبجدية مائية، تُكتب بلا حروف، وتُقرأ بلا عيون.

وأدركت، مع هذا الهطول، أن كل شيء قابل للإصلاح: الأخطاء تُغفر، الذنوب تُمحى، الخطايا تُطهَّر بالندم. إلا الثقة. إنها كزجاج شفاف، إذا انكسر تفتّت إلى شظايا تجرح كل من يحاول أن يجمعها. من يفقد ثقته يخسر وطنًا داخليًا، ومن يفتقدها يعيش في منفى بلا جواز سفر للعودة.

يا جبران، المطر والموسيقى والحرف جميعها مؤامرة كونية علينا. المطر يبكي عنا، صوت إبراهيم يترجمنا، وعدن تحضر كمعشوقة أسطورية تداوي أرواحنا، والحرف يحاول أن ينقذنا. لكن الأبجدية عاجزة، لأنها مقيّدة. الكلمات مثل أقفاص نحاول أن نحبس فيها العاصفة، لكن العاصفة لا تُحبس. المطر يهرب، الصوت يفيض، والروح تتجاوز النصوص.

وأنا الآن بين المطر واللحن وعدن، أشعر أنني مسافر بلا خريطة. أسمع أصواتًا لا تُسمع، وأرى معاني لا تُترجم. يا جبران، نحن لسنا أبناء اللغة، بل أبناء ما وراء اللغة. نحن أبناء الفراغات بين الكلمات، أبناء الصمت الذي يسبق المطر، أبناء المدن التي تعيش فينا أكثر مما نعيش فيها.

ولو استطعت أن تُصغي إليّ في هذه اللحظة، لفهمت أن كل هذا ليس بوحًا شخصيًا، بل صلاة طويلة. صلاة بلا محراب ولا مسبحة. صلاة من مطر ولحن وصوت وعدن وحرف، تتجه نحو السماء لتقول: نحن تعبنا من الكلام.

فيا جبران، ما نحن إلا مسافرون في لغاتٍ لا تُترجم، عابرو دروبٍ من المطر والسماع والحرف والصوت والمدن الحلم. نعيش كالغرباء بين الأبجديات، ونرحل كالمطر بين القلوب. وفي آخر الطريق، لن يبقى لنا سوى أن نصغي… لا للغة الورق، بل للغة الدموع حين تتحوّل مطرًا، وللغة الروح حين تنطق موسيقى، وللغة عدن حين تُفتح أبوابها كحلم، وللغة الثقة حين ترحل فلا تعود.

زر الذهاب إلى الأعلى