مقالات وآراء

منطق الغنيمة والحماية: مأزق الدولة القومية في العالم العربي

بقلم /كمال صلاح الديني

تصريحات المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان توم براك حول الشرق الأوسط التي وصف فيها المنطقة بأنها مجرد قرى وعشائر، بينما الدول الحديثة كانت نتاج اتفاقية استعمارية مثل سايكس بيكو 1916م، ليست مجرد رؤية استشرافية صادمة، بل تعكس قراءة دقيقة وموضوعية للمعوقات الهيكلية التي تواجه الدولة في العالم العربي، فالواقع الاجتماعي والسياسي لا يزال خاضعاً لبنى تقليدية عميقة، حيث الولاءات الشخصية والعشائرية والقبلية “والدينية الطائفية” تتفوق بل وتسود على الكفاءة والمؤسسات، ويظل الصراع على الشرعية سمة مستمرة منذ عقود…

فالمجتمعات العربية في جوهرها لم تغادر بعد دائرة العلاقات البدائية القائمة على القبيلة والعصبية وعلاقات الولاء والتبعية للسلطة والسلطان وللزعيم وشيخ القبيلة وليست علاقة كفاءة وإنتاج، فالعلاقة بين الفرد والسلطة غالباً ما تكون علاقة “الغنيمة مقابل الحماية بمعنى أدق “أخضع ترضع من ثدي السلطة”، حيث يُكافأ الولاء للسلطان أو للزعيم أو لشيخ القبيلة بالحماية والمكاسب، بينما يبقى المواطن أسيراً لمنطق الخضوع، وتتكرر هذه الصيغة عبر الأجيال مما يحد من إمكانيات بناء دولة حديثة تقوم على الكفاءة والنزاهة والعدالة…

وإذا كانت اتفاقية سايكس بيكو قد رسمت حدود الدول القومية العربية، فإن التجربة التاريخية أثبتت أن هذه الدول وُلدت محمّلة بمعوقات بنيوية حالت دون استقرارها، فقد افتقرت لمفهوم الدولة الوطنية الجامعة القادرة على دمج التعددية الاجتماعية ضمن مؤسسات حديثة، وظلت أسيرة الولاءات التقليدية والانقسامات الداخلية، وهذا ما جعل فكرة الدولة القومية كما صُممت في العالم العربي، مشروعاً هشاً، سرعان ما انكشف أمام أول اختبار حقيقي للأزمات الداخلية أو التدخلات الخارجية…

وفي اليمن، يتجلى هذا المأزق بشكل حاد فالسلطات التقليدية من شيوخ القبائل إلى القيادات العسكرية والسياسية والدينية تخلق شبكة معقدة من النفوذ المتوازٍ والمصالح المتضاربة، ما يجعل أي مشروع دولة مركزية قوية مهمة شبه مستحيلة، وفي الجنوب حيث هناك مشروع وطني يسعى لبناء دولة حديثة، تظهر تحديات مضاعفة كالإنقسامات التاريخية وإرث الولاءات الضيقة، والاعتماد على السلطة الشخصية على حساب المؤسسات…

رغم ذلك، يُقدم الجنوب على فرصة نادرة لإختبار نموذج جديد للدولة والهوية السياسية الجامعة ، حيث.يمكن أن يكون المختبر السياسي لتجربة الإنتقال من الولاءات التقليدية إلى دولة تقوم على المواطنة والكفاءة، والقدرة على الإنتاج، فنجاح هذا المشروع لن يكون مجرد تغيير سياسي، بل ثورة اجتماعية وثقافية تهدف إلى كسر دائرة “الغنيمة والحماية” التي أعاقت المجتمعات العربية طويلاً…

فالمعركة المستقبلية في اليمن والجنوب ليست فقط على الأرض أو السلطة، بل على الشرعية نفسها هل تُبنى على الولاءات التاريخية أم على الإنجاز والمؤسسات؟ وتجاوز منطق الزعيم والقبيلة، وصياغة شرعية جديدة مبنية على الأداء والكفاءة والمصلحة الوطنية الشاملة…

هذه الرؤية التي عبّر عنها براك تكشف أيضاً عن النظرة الأميركية لمعضلة السلام في الشرق الأوسط، باعتباره مستحيلاً على أسس الدول القومية التي أنشأتها القوى الاستعمارية، لأنها لم تُبنَ على أسس اجتماعية صلبة أو هوية وطنية جامعة بل على حدود مصطنعه ومشاريع فوقيه ليس ذلك فحسب، بل لاتزال المنطقة تحكم بطبائعها الإجتماعية القديمة أكثر من قوانينها الحديثة ، ومن هنا يُطرح مشروع “الشرق الأوسط الجديد” كبديل، ليس لإعادة ترسيم الخرائط فقط، بل لإعادة صياغة البنى السياسية والإجتماعية بما يتجاوز فكرة الدولة القومية التقليدية من وجهة نظر أمريكية خالصة….

زر الذهاب إلى الأعلى