مقالات وآراء

دثينة أرض الأبطال.. وأبين مصنع الرجال

بقلم / صبري محمد السعدي

ستظل دثينة أرض الأبطال، وأبين مصنع الرجال الصناديد ، فقد كانت – وما زالت – ولاية دثينة وما جاورها من القرى والسلطنات مثل “الفضلي والعوذلي” ، ولادةً ومعطاءةً بألاف الكوادر والشهداء الميامين الذين أفنوا حياتهم في سبيل أرض الجنوب، فمنذ القرون الوسطى إبان الغزو البرتغالي ثم الاحتلال العثماني، وقفت قبائل دثينة إلى جانب قبائل يافع وردفان ومكيراس والحواشب والصبيحة، في مواجهة الأطماع الخارجية، والقبلية الزيدية على وجه الخصوص.

ومع ما بعد الحرب العالمية الأولى، وبداية تشكّل الوحدات العسكرية والثورية المنظمة في عدن ، كان لأبناء قبائل دثينة الدور الريادي والنصيب الأوفر من التضحيات في مختلف المراحل والمنعطفات التاريخية والسياسية التي مر بها الجنوب.

ففي العقد الثالث من القرن العشرين، وبعد إحلال جميع التنظيمات العسكرية في عدن، تم تأسيس جيش محمية عدن “الليوي” (Aden Protectorate Levies) التابع لسلاح الجو الملكي البريطاني، وذلك في الأول من أبريل عام 1928م. الذي قام بتجنيد أبناء القبائل المحلية من مختلف مناطق وسلطنات الجنوب، وضمّ نخبة من الكوادر والقيادات العسكرية المؤهلة، كما جُهّز بأحدث الأسلحة والوسائل العسكرية آنذاك، ليتمكن من تنفيذ مهامه في حماية المطارات والموانئ وخطوط النقل، ثم توسعت مهامه لتشمل الحدود والدفاع الداخلي عن مدينة عدن ومناطق المحميات الجنوبية وحضرموت والمهرة، وصولاً إلى حماية الإقليم الخليجي عمومًا من أي تهديد.

وقد لعب أبناء قبائل دثينة الدور القيادي في جيش الليوي، وشكّلوا نواته الأساسية في مختلف المستويات والرتب العسكرية، بدءًا من الصف القيادي وصف ضباط وضباط إلى الجنود.
وخلال الحرب العالمية الثانية، التي عُرفت في عدن باسم حرب الطلياني، برز دورهم البطولي في الدفاع عن مدينة عدن والجزر التابعة لها في البحر العربي، لما لها من أهمية استراتيجية تمتد من مضيق باب المندب حتى جزر أرخبيل سقطرى.
فقد تصدّوا لهجمات القوات الإيطالية وغارات طائراتها المنطلقة من المستعمرات الإيطالية في الصومال، وأفشلوا مساعيها للسيطرة على ميناء عدن ومضيق باب المندب، ذلك الممر البحري العالمي الذي يربط بين الشرق والغرب ويُعد ثاني أهم موقع استراتيجي في العالم بعد مضيق جبل طارق، خاصة بعد افتتاح قناة السويس.

ومع تصاعد موجة الثورات العربية ضد الاستعمار الأجنبي وظهور فكر القومية العربية فيما عُرف بمرحلة الصحوة، اندلعت ثورة 14 أكتوبر 1963م ضد المستعمر البريطاني، وكان لأبناء مودية ودثينة اليد الطولى في الكفاح المسلح؛ إذ انخرط أبناؤها في تنظيمي الجبهة القومية وجبهة تحرير الجنوب.
فأبناء القرى في دثينة انضموا في أغلبهم إلى الجبهة القومية، فيما التحق أبناء دثينة ومودية الذين عاشوا في مدينة عدن – من الكوادر العسكرية والسياسية والمثقفين – بجبهة التحرير.
وقد شكّل هؤلاء عماد الثورة وحسموا المعركة ضد القوات البريطانية والنخبة التي أرسلتها لندن لإخماد الثورة، حتى تحقق الاستقلال وجلاء المستعمر البريطاني في 30 نوفمبر 1967م.

غير أن التضحيات لم تتوقف عند هذا الحد؛ فبعد الاستقلال، كان لأبناء دثينة الدور الأكبر في بناء اللبنات الأساسية لمؤسسات الدولة الوليدة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، التي نالت الاعتراف العربي والدولي، وحصلت على مقعد في كلاً من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
لكن سرعان ما بدأت فصول جديدة من التهميش والاضطهاد والتصفيات السياسية، خاصة بحق المنتمين إلى جبهة التحرير، الذين أُقصوا مبكرًا ونالوا أقسى أنواع التنكيل، وحتى بعض المنتمين إلى الجبهة القومية فيما بعد طالهم المصير ذاته على مراحل متعاقبة، حتى انفجر الوضع في أحداث يناير الدامية عام 1986م، ثم جاءت وحدة 1990م لتفتح صفحة جديدة من المعاناة وضياع الحقوق بل وضياع البلاد بأكملها.

ومع مرور العقود، بزغ جيل جديد من أبناء دثينة، وحين شنت ميليشيات الحوثي وحلفاؤها حرب الاجتياح على الجنوب عام 2015م، كان أبناء دثينة في طليعة المدافعين عن عدن، متناسين جراح الماضي، فحملوا سلاحهم وانخرطوا في صفوف المقاومة الجنوبية حتى قبل تدخل التحالف العربي وعملية عاصفة الحزم.

لكن، ونحن نعيش الذكرى الـ 63 لثورة اكتوبر، وكأن التاريخ يعيد نفسه، لم يُنصف ابناء هذا الجيل كما لم يُنصف آباؤهم من قبلهم، فبعد التحرير لم يكن نصيب أبناء دثينة سوى الشهادة والتضحيات، حيث قدمت محافظتهم اعلى نسبة شهداء في حرب 2015م، وبقية الذين شاركوا في الحرب من ابنائها، كان مصيرهم بين الاقصاء و الزج في السجون، بينما ذهبت المناصب والوظائف والمكافآت إلى غيرهم، في تكرار مؤلم وصريح لدورة الظلم والجحود التي رافقت تاريخهم النضالي.

ومع ذلك، سيظل أبناء دثينة على العهد، أوفياء للأرض والكرامة، لا يعرفون الانكسار، فكلما دقّت طبول المعارك، كانوا في الصفوف الأولى، يرفعون راية بلادهم بعزيمة الأبطال.
فمهما كانت الجراح عميقة، ستبقى دثينة بلد الأبطال، وأبين مصنع الرجال، وستبقى مواقف أبنائها شاهدةً على أن الثورات يصنعها الأحرار، لكن يسرقها الأنذال.

زر الذهاب إلى الأعلى