مقالات وآراء

للمكلا وللتاريخ.. الاعتقال الأول–رمضان 1995م

كتب: فادي حسن باعوم

كانت تلك المرحلة بعد عامٍ واحد فقط من حرب 1994م التي انتهت بسيطرة قوات الشمال اليمني على الجنوب، ودخول حضرموت طورًا من القمع الأمني والملاحقات السياسية. ساد الخوف وارتفعت وتيرة التضييق، لكن الغضب كان يتراكم في الصدور.

حديث والدي

(الزعيم حسن أحمد باعوم:

في المكلا، قبيل أواخر رمضان 1995م، دخل والدي إلى غرفتي وقال بهدوءٍ حازم:

«كما تعرف، نحن تحت الاحتلال، وسنبدأ في المقاومة السلمية، وغالبًا سنتعرض لضغوطات وملاحقات واعتقال. أريدك أن تفهم هذا وأن تكون صلبًا كما ربيتك. قد يضغطون عليّ بك، وقد يعتقلونك، فكن كما أراك… رجلًا صلبًا، ولا تخف.»
كانت تلك الكلمات تمهيدًا لما سيأتي بعد أيام قليلة.

المظاهرة والاعتقال

في أواخر شهر رمضان 1995م، خرجت أول مظاهرة شعبية في مدينة المكلا، انطلقت من حي الشهيد بمشاركة مجموعة من الشباب، وكنتُ حينها حديث السن. كانت المظاهرة عفوية وحماسية، عبّرت عن الغضب الشعبي تجاه الأوضاع القائمة، ووصلنا بمسيرتنا إلى مبنى مديرية الأمن، ثم تفرّقنا بعد أن أوصلنا رسالتنا.

في ظهر اليوم التالي للمظاهرة، وصلت مجموعة من الجنود إلى منزلي. قيّدوني وأخذوني مكبّلًا إلى مبنى الأمن السياسي بالمكلا. لم ألبث طويلًا حتى وضعوا كمامة على عيونيّ، وأركبوني فوق طقم عسكري يعج بالجنود تحرّك بسرعة.

وبعد أن قطعنا مسافة معقولة، بدأ الطقم يطوي طريقًا وعرًا غير معبّد وكأنه يصعد جبلًا. سألت أحد الجنود المرافقين:

«إلى أين متجهين؟»
فقال ساخرًا: «هذا مكانكم يا آل باعوم… هذا مكان يليق بكم!»

عندها أدركت أن وجهتنا معتقل البقرين سيّئ الصيت والسمعة، حيث يُقال: «الداخل فيه مفقود، والخارج منه مولود».
كانت سمعته مخيفة للغاية. تذكّرت أن اثنين من آل باعوم دخلوه قبلي: خالي عبدالله سالم باعوم (حفظه الله) والفقيد حسن صالح باعوم.
فقلت للجندي باللهجة الحضرمية ساخرًا لأُبقي رباطة جأشي:

«قدها فضيلة علينا يا آل باعوم.»
وضحكت رغمًا عني حتى لا يظنّ أنني خائف.

في سجن البقرين

وصلنا إلى أمام مبنى السجن. فُكّت الكمامة عن عيونيّ وسلّموني لرجلٍ في نحو الستين من عمره، عرفتُ من لهجته أنه من صنعاء. أدخلني المبنى، وكانت الجدران كئيبة عليها لطخات غامقة تشبه آثار الدم. نزل بي سلمًا إلى رواقٍ طويل تتوزع على جانبيه زنازين صغيرة، وأدخلني إحداها وأغلق الباب.

كان الوقت عصرًا، وهذا أول اعتقال لي؛ كنت في حالة ذهول. الزنزانة ضيقة جدًا، بالكاد تمتد بطولي، نافذتها صغيرة جدًا في أعلاها للهواء، وبها فراش مهترئ لا يصلح، لكن للضرورة أحكام. جلست أهدّئ روعي وأفكر كيف سأقضي الوقت دون مصحف أو جريدة أو أي وسيلة للقراءة.

الرفاق و«يا خبير»

بعد قليل، سمعت صوتًا من الزنزانة المجاورة يصيح:

«يا سجان! يا سجان! يا خبير!»

(«يا خبير» لفظة شائعة لدى أبناء الشمال بمعنى: يا رفيق).
من لهجته عرفت أنه حضـرمي. سألته عبر الفتحة الصغيرة:
– من أنت؟
قال:

«أنا بلعلا، محبوس جنبك. أخذوني وأنا أرنج الدار (أطلي البيت). الآن أريد أصلي وما يجوز وفي جسمي رنج!»

نادينا السجان معًا، فجاء رجل متفهّم؛ فتح لنا الزنازين في النهار لنختلط، ويغلقها ليلًا. وجدت معي ثلاثة موقوفين بنفس التهمة ومن أبناء المكلا: السيئوني (رحمه الله)، وبلعلا، وباحسين. لُمّتنا خففت من وحشة السجن.

جاءنا الإفطار، أفطرنا، ثم عاد كل واحد إلى زنزانته.
لكني لم أستطع النوم تلك الليلة؛ كانت صور التعذيب تدور في ذهني عمّا اشتهر به هذا السجن.
ومن جهةٍ قريبة من زنزانتي، فيما يبدو مبنى للضباط والجنود، التقطت أذني شارة مسلسل «الجوارح» الذي كنت أتابعه؛ وكانت تلك حبسة فوق الحبسة إذ فاتتني النهاية!


التحقيق والخوف المؤجل

في اليوم التالي، دخل السجّان ووضع كمامة على عيونيّ وقيّد يديّ، وأمسكني من ذراعي يقودني إلى مكان فيه طلوع درج.
قلت في نفسي:

«حان وقت التعذيب يا فادي: كهرباء؟ ضرب؟ إغراق؟»

خيالات مؤلمة دارت في رأسي حتى أدخلوني غرفة وأجلسوني على كرسي.

بدأ التحقيق. من الحوار فهمت أن هناك محقّقين اثنين: أحدهما صنعاني والآخر حضـرمي.
وللأمانة لم أتعرض لتعذيب جسدي؛ فالتعذيب النفسي في زنزانة تحت الأرض يكفي.
اشتدّوا في الأسئلة، وتمحور تركيزهم حول أن ما جرى بتحريض من باعوم الأب.
شرحت لهم أن المظاهرة كانت تلقائية وعفوية.

بعد فترة شعرت بأن أحد المحققين خرج وبقي الحضرمي. اقترب مني وهمس:

«لا تخاف ولا تقلق، نحن معك ولن يصيبك شيء. ما عندهم شيء ضدك؛ المسألة ضغط على والدك. بتخرج قريب، فلا تقلق.»

هنا تذكّرت ما قاله والدي حسن باعوم قبل أسبوع من اعتقالي:

«يا ولدي، نحن سنبدأ مرحلة جديدة في النضال، واحتمال يعتقلوك للضغط عليّ. فكن رجلًا ولا تخف.»

اشتدت عزيمتي، وصار همّي كيف أقضي الوقت في السجن.
ابتكرنا مع الإخوة السجناء ألعابًا وحديثًا نكسر بها العزلة، حتى فرّجها الله.

التعهّد والحرية الأولى

لم يطُل حبسنا؛ إذ أُخرجتُ من السجن إلى مبنى الأمن السياسي مرة أخرى.
عرضوا عليّ ورقة تعهّد كي أوقّعها للإفراج عني، فرفضت.
حاولوا كثيرًا، وأنا أرفض.
وفي النهاية حلّ المشكلة خالي عبدالله سالم باعوم؛ تعهّد بالنيابة عني فتم الإفراج عني.

ما بعد 1995

بعدها اعتُقلتُ أربع مرّات أخرى، وتحاكمتُ مرّتين.
وكان الاعتقال في مبنى الأمن السياسي بصنعاء هو الأشد والأصعب؛ مكثت فيه سنة وثلاثة أشهر، وصدر بحقي حكمٌ بخمس سنوات — وتلك قصص أخرى.

لم يكن اعتقالي الأول في رمضان 1995م مجرد حادثة شخصية، بل كان صفحة من فصول الجنوب المقهور، وامتدادًا لرحلة أمةٍ رفضت الانكسار مهما اشتدت العواصف.
خرجت من البقرين لا كما دخلته؛ خرجت أكثر وعيًا بمعنى الكفاح، وأشد إيمانًا بأن الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع بإرادة الرجال ومواقف الأحرار.

في ذلك السجن، بين جدرانٍ رطبة وأصواتٍ مكتومة، أدركت أن القيد ليس في الحديد، بل في الاستسلام.

كانت تجربة البقرين بذرتها الأولى التي أنبتت في داخلي شجرة الصلابة، تلك التي ما زالت جذورها تمتد اليوم في وجه الفساد والخذلان، دفاعًا عن قضية الجنوب وعدالة حضرموت وكرامة الإنسان.
ولم يكن خروجي حريةً شخصية، بل رمزًا لانتصار الصمود على الخوف، والإرادة على القهر.

ومن هناك، من ظلمة الزنزانة، بدأت أفهم أن الطريق إلى الدولة والكرامة لا يُعبَّد إلا بصدق النية وثبات الرجال…
وما زلت أؤمن أن الشعوب لا تُهزم إذا حملت قضيتها في قلوبها قبل أن ترفعها في شعاراتها.

24 أكتوبر 2025م

زر الذهاب إلى الأعلى