الأولوية الوطنية: نقد منطقي لمشروع الفيدرالية في ظل الاحتلال

حافظ الشجيفي
إن طرح مشروع الفيدرالية اليوم، من خارج الإطار الزمني والسياسي الطبيعي للدولة الجنوبية المستقلة، يجعله طرحاً غير منطقي ولا واقعي ألبتة. فبينما لا يزال الجنوب يرزح تحت نير الاحتلال اليمني، يتم طرح هذا النظام السياسي كحل سحري للمشاكل الراهنة، على نحو يغفل حقيقة أن المشاكل القائمة في الجنوب – من تفكك وطني، وتشتت سياسي، وتدهور اقتصادي وخدماتي، إلى سوء إلادارة والفساد – هي نتاج مباشر لواقع الاحتلال وتبعاته، وليست ناتجة عن غياب الفيدرالية كنظام حكم على الإطلاق.
فمن غير المنطقي أبداً طرح خيار نظام حكم تفصيلي لدولة لا تزال محتلة وتعيش في وضع غير طبيعي. حيث يمثل هذا الطرح محاولة لوضع حلول لا علاقة لها بالمشكلة الجوهرية التي يعاني منها الجنوب في وضعه الحالي. فالمشكلة الأساسية هي الاحتلال اليمني، وبالتالي فإن الحل الطبيعي والمنطقي لهذه المشكلة هو إعلان الاستقلال التام والناجز. إذ لا يمكن تشخيص المشاكل الجنوبية “الخالصة”، ووضع الحلول الجذرية لها بمعزل عن بيئة الاستقلال؛ فالتشخيص السليم للمشكلات الداخلية، وتحديد النظام الأمثل للدولة، لا يمكن أن يتم إلا في وضع طبيعي مستقر للجنوب، أي بعد سنوات من قيام دولة الاستقلال.
ولكن، وفي كل الأحوال، هل الفيدرالية فعلاً هي الوصفة السحرية التي ستنهي الفساد وتصلح الإدارة وتنعش الاقتصاد، وتعزز الوحدة الوطنية؟ أم أنها مجرد وهم سياسي يهدف إلى تفكيك الوحدة الوطنية الجنوبية؟
ففي واقع الأمر، الفيدرالية ليست حلاً للفساد، أو لتدهور الخدمات، أو للأزمات الاقتصادية، أو لسوء الإدارة والفشل الحكومي، أو للتفكك السياسي والوطني. فالفساد يمكن أن يتفشى، والفشل الإداري يمكن أن يسود، وتوزيع السلطات قد يختل، والأزمات الاقتصادية قد تستمر تحت مظلة النظام الفيدرالي. فالفيدرالية ليست عصا سحرية، بل هي نظام حكم له آلياته وخصوصياته وشروطه، وتعتبر أداة محايدة نسبياً فيما يتعلق بجودة الممارسة السياسية أو كفاءة الإدارة.
حيث تعتبر الفيدرالية، في أساسها، حلاً للنزاعات والتباينات العرقية، والطائفية، والقومية، والاختلافات الدينية. إذ أنها نظام مُصمم لاستيعاب هذه الاختلافات الثقافية والاجتماعية، وتهدئة الصراعات التي قد تنشأ بسببها، وهي أداة للتعايش والتوافق في المجتمعات شديدة التنوع. كما أنها قد تصلح في البلدان ذات المساحات الشاسعة التي يصعب على السلطة المركزية السيطرة عليها.
وهنا يطرح التساؤل الجوهري: ما علاقة الفيدرالية بالجنوب؟ فمشروع الفيدرالية الذي يُروَّج له لا ينطبق على الواقع الاجتماعي للجنوب، حتى بعد سنوات من استقلالها، لأن الجنوب لا يعاني من نزاعات عرقية أو طائفية بالمعنى الذي يستدعي تطبيق الفيدرالية كآلية للتعايش، بل على العكس، حيث يتميز الشعب الجنوبي بوحدة اجتماعية وثقافية ودينية ومذهبية واضحة لا تتميز بها الشعوب المجاورة. بالإضافة إلى أن الجنوب دولة صغيرة المساحة وقليلة السكان، ولا تحتاج إلى هذا النوع من التعقيد الإداري، ويكفيها نظام ديمقراطي موحد لتقسيم السلطات وحل كل المشاكل.
نحن لا نحتاج في الجنوب حالياً إلا إلى إعلان الاستقلال الذي ينهي واقع الاحتلال أولاً وقبل كل شيء، ثم بعد ذلك نحتاج إلى تفعيل القوانين وأجهزة الرقابة والمحاسبة، والفصل الحقيقي بين السلطات، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي عادل، ولا نحتاج إلى الفيدرالية كشرط لقيام دولة قوية ومتقدمة وتحقيق الرفاهية. فالمشكلة ليست في شكل الدولة، بل في جوهرها، وليست في النظام السياسي النظري، بل في الممارسة السياسية والتطبيق العملي.
فالفيدرالية مشروع سياسي لابد وأن يتسبب في تعقيد المشهد، ويُعمّق الانقسامات بدلاً من حلها. فما يحتاجه الجنوب حقاً هو نظام حكم رشيد، ودولة قوية تحترم القانون، وتحمي الحقوق، وتحقق العدالة والمساواة لجميع أبنائها. وهذا لن يتحقق حتى في ظل النظام الفيدرالي إلا من خلال الإرادة السياسية الصادقة، والعمل الجاد، والتضحية من أجل البناء الوطني المستقل. وعندما تنعدم الإرادة، فلا ينفع نظام ديمقراطي، ولا نظام فيدرالي، ولا نظام شمولي.