مقالات وآراء

الجنوب بين ذاكرة التاريخ وإمكانات المستقبل: قراءة في الثروة والدولة ومسار التحول..

بقلم: عبدالكريم أحمد سعيد

لم يكن الجنوب في أي مرحلة من تاريخه الحديث أرضاً فقيرة أو محدودة الإمكانات. فمنذ عقود ما قبل الوحدة، امتلك الجنوب نموذجاً مؤسسياً يقوم على إدارة الدولة للموارد العامة وفق قواعد واضحة، وبدرجة معقولة من التنظيم الإداري الذي مكنه من الحفاظ على تماسك مؤسسات التعليم والصحة والخدمات. ومع ذلك، فإن التحولات السياسية اللاحقة أدت إلى تراجع هذا النموذج، وسمحت بتوسع أنماط الإدارة المركزية التي انعكست سلباً على قدرة الجنوب على حماية ثرواته وتوجيهها نحو التنمية المستدامة.
لقد شكلت السياسات التي سادت خلال العقود الماضية نقطة تحول قيدت إمكانات الجنوب، ليس بفعل نقص في الموارد، بل نتيجة غياب منظومة مؤسسية قادرة على إدارة تلك الموارد بكفاءة. وتشير التجربة التاريخية إلى أن أي ثروة، مهما بلغت، يمكن أن تفقد قيمتها في ظل غياب الدولة الحامية لها. ومن هنا نشأت الفجوة بين ما يمتلكه الجنوب في باطن الأرض وما يعانيه المواطن في سطح الواقع.
ومع تطور الوعي الوطني الجنوبي خلال السنوات الأخيرة، برزت الحاجة إلى إعادة قراءة التاريخ بهدف استخلاص الدروس التي يمكن أن توجه المستقبل. فالتجربة الماضية تؤكد أن الدولة القوية لا تبنى على وفرة الموارد وحدها، وإنما على متانة المؤسسات، وفعالية التشريعات، واستقلالية القضاء، ووجود إدارة عامة تعمل وفق قواعد الحوكمة الرشيدة. هذه المعايير ليست فقط ضماناً لكفاءة استثمار الموارد، بل هي ما يحفظ الثروة من الاستنزاف ويحولها إلى مشروعات تنموية ذات أثر مستدام.
اليوم، ومع تشكل مسار سياسي جديد يتقدم فيه الجنوب بخطوات مدروسة نحو صياغة مستقبله، تبدو الفرصة قائمة لتأسيس نموذج اقتصادي وإداري يستفيد من الإرث التاريخي ويعالج الاختلالات التي تراكمت عبر السنين. إن بناء رؤية تنموية حديثة يتطلب مقاربة شاملة تعتمد على تعزيز كفاءة المؤسسات، وترسيخ مبدأ الشراكة المجتمعية، وتطوير القطاعات الحيوية كالطاقة والموانئ والثروة السمكية، جنباً إلى جنب مع الاستثمار في رأس المال البشري من خلال التعليم والتدريب والبحث العلمي.
ولا شك أن الموقع الاستراتيجي للجنوب يمنحه ميزة تنافسية فريدة يمكن استثمارها لتعزيز دوره في الاقتصاد البحري وشبكات التجارة العالمية. ومع وضع سياسات اقتصادية متوازنة وتنظيم بيئة استثمارية مستقرة، يمكن للجنوب أن يتحول إلى مركز إقليمي للنشاط التجاري واللوجستي، بما يعكس قدرته على الاندماج في الاقتصاد الدولي بفعالية.
إن دراسة التاريخ ليست مجرد استدعاء للذاكرة، بل هي أداة لفهم مسار التحولات، وتحديد ما ينبغي الحفاظ عليه وما يجب تجاوزه. والجنوب اليوم يقف على عتبة مرحلة جديدة، تبنى فيها الدولة على أسس علمية ومنهجية، وتدار فيها الثروة كأمانة وطنية تتشارك فيها الأجيال، لا كسلعة ظرفية تخضع للتقلبات السياسية. وهذا يتطلب إرادة سياسية مستقرة، ورؤية اقتصادية واضحة، ومؤسسات قادرة على حماية الثروة وتحويلها إلى تنمية.
وبذلك، يمكن للجنوب أن ينتقل من حالة استنزاف الموارد إلى مرحلة استثمارها بكفاءة، ومن الارتباك المؤسسي إلى بناء دولة قادرة على تحقيق طموحات شعبها. وبين الماضي بما يحمله من دروس، والمستقبل بما يوفره من فرص، يبقى الجنوب مؤهلاً لصياغة نموذج تنموي متماسك يستند إلى ثروته الطبيعية ورأس ماله البشري، ويمضي بثقة نحو بناء دولة حديثة مستقرة وعادلة.

زر الذهاب إلى الأعلى