مقالات وآراء

الشاعر رائد القاضي .. عمر ذهبي ورحيل مبكر

كتب/ د. عبده يحيى الدباني

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين. ها أنا أكتب رثاء لأخي وصديقي وطالبي وابني الشاعر رائد القاضي رحمه الله تعالى.أكتب هذه الخواطر والذكريات التي لا ترتقي إلى مستوى الرثاء.فأنا عاجز عن رثائه ، والرثاء هو أقرب إلى الشعر منه إلى النثر ،ولم أعد اليوم أكتب الشعر إلا نادرا .
بعد وفاته رحمه الله هذه الوفاة التي صدمتنا وزلزلتنا لقد فارقنا من غير وداع ..لم يمرض ولم يكن يعاني من شيء، كان ملء السمع والبصر شعرا، وإبداعا، وحضورا، وصحة، وعافية، وشبابا، وعطاء ، وفجأة يرحل على هذا النحو الفاجع ، ولكن الحمد لله الذي لم يحمد على مكروه سواه.
لم أستطع أن أكتب شيئا بعد تلك المصيبة التي حلت بنا ولكني هربت إلى الجوانب الرسمية وهي مهمة فكان موقعي في اتحاد أدباء وكتاب الجنوب، وقربي من الشاعر الراحل جعلاني في الواجهة لكتابة نعي الفقيد باسم الاتحاد ،ومن ثم السفر إلى حبيل الريدة لتقديم العزاء لأهله وأسرته وأبناء حالمين الذين حضروا ذلك المجلس ، وبعد ذلك أقمنا جلسة عزاء في مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب، استقبلنا فيها العزاء قيادة الاتحاد وأهله . كل هذه الأمور كانت عوضا بالنسبة لي عن الدخول في الرثاء المباشر لأخي رائد رحمه الله.
إن الذين نعزهم كثيرا قل ما نستطيع أن نرثيهم بعد مغادرتهم مباشرة. لقد فقدت أخي وشقيقي قبل أكثر من خمسة أشهر ، أخي وشقيقي علي يحيى الدباني رحمه الله تعالى وطيب ثراه ، لم أستطع أن أكتب فيه شيئا وقد كان يمثل لي أخا وأبا وصديقا ومثلا أعلى لا أستطيع أن أصف مابيني وبينه من مشاعر الإخاء، كأننا كنا شخصا واحدا على طريقة الشاعر الصوفي الذي قال :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان سكنا بدنا

هذه المراسيم عوضتني عن الدخول في الكتابة عن رائد بعد وفاته مباشرة.
أما بداية معرفتي برائد فلا أتذكر حقيقة متى كان أول لقاء بيننا ، فكأنما أنا أعرفه من زمان، وعندما بدأ يكتب الشعر ،وهو طالب في التعليم الأساسي في مدرسة الرباط، هذه المدرسة التي تجمعنا معا ،أنا درست فيها التعليم الأساسي حتى الصف الثامن ،وكذلك رائد درس فيها المرحلة نفسها حتى الصف التاسع، فقريتانا متجاورتان يدرس أبناؤهما في هذه المدرسة ، عرض علي يوما الأستاذ ناجي أحمد رحمه الله تعالى بعد منتصف التسعينيات قصيدة من البحر الوافر ، وقال: شف هذه القصيدة يقولون أنك أنت صاحبها والحقيقة أنه كتبها طالب من الرباط هو رائد القاضي ابن عبدالله محسن حسين القاضي ،وهو الآن يدرس في الصف السادس أو السابع تقريبا هذه القصيدة حقا هي قصيدة رائد لكن الأستاذ ناجي يعني تأثر الشاعر الطفل بقصيدة لي من البحر نفسه ،وعلى القافية والروي كتبتها في تلك الفترة من باب المزح الذي لم يخل من الجد والعتب، وأرسلتها إلى الأستاذ محمود محمد ناصر الدعري مدير ثانوية حالمين ،ولاقت رواجا كبيرا بين الناس بحكم فكاهيتها ففي ظاهرها
هجوم وتحدٍّ لم يكونا جادين كل الجد ولكن القراء لهم طريقتهم في قراءة الشعر، فقد يخالفون حتى الشاعر نفسه في فهم شعره فلم يعد المعنى في بطن الشاعر كما كان يقال،
فهذه كذبة من كذبات النقد ولكنه موجود في النص المقروء وفي نفس القارئ . كان مطلعها :

صباحا طيبا يا شيخ ناجي
سلاما أيها الدعري سلاما

هكذا بدأ رائد يتأثر بالشعر الفصيح مباشرة وقد قلت هذا عندما كتبت مقدمة ديوانه ،فهو يعيش في وسط شعبي ،والشعراء كثيرون هنالك ،ولكنه لم يشأ أن يتأثر بهذا الشعر وإن تأثر به فإنه لم يحاول أن يكتبه ،وإن كتب فيه فإن ذلك جاء متأخراً ،ولم يكن مخلصا في كتابة الشعر العامي أو الشعبي، فقد استهوته النصوص الفصيحة التي كان يدرسها في المدرسة ضمن كتاب المطالعة والنصوص الأدبية والشعرية تلك النصوص التي كانت مختارة بعناية
في مبانيها ومعانيها أيام ماكان هناك تعليم حقيقي فتأثر بها الشاعر الصغير، وهذا هو المطلوب في التعليم ، فالناس وخاصة النشء يتأثرون بما يقرؤون وبما يدرسون ويحفظون .
ومع مرور الأيام تعرفت على رائد وتعرف علي لقد سمعت به قبل أن أعرفه وسمع بي قبل أن يعرفني لأننا من منطقة واحدة كما ذكرت .

ولكنني كنت أسكن في عدن في منتصف التسعينيات ورائد في القرية وكنت أسمع أخباره عندما يشارك في المسابقات الأدبية الشعرية سواء في الداخل أو في الخارج وأحيانا كان يبعث لي بالقصائد التي يرغب أن يشارك بها وأعطيه رأيي في ذلك .
لم أدرس رائدا في التعليم الأساسي ولا في التعليم الثانوي، فقد انتقلت من حبيل الريدة من التدريس في الثانوية إلى عدن قبل أن يأتي رائد ويدرس فيها الثانوية العامة، وفي البكالوريوس تخصص رائد لغة عربية ،ولكنه درس في كلية التربية صبر ،وكان يأتي إلى كلية التربية عدن ،ويدخل معي بعض المحاضرات ،أظن ذلك كان أثناء تخرجه أو بعد تخرجه من كليةالتربية صبر، ولكن كنا نلتقي بعد ذلك بين الحين والحين. درسته في الماجستير وفي الدكتوراه في السنة التمهيدية للماجستير والسنة التمهيدية للدكتوراه .
زملاء رائد الذين درسوا معه في التعليم الأساسي يقصون عنه قصصاً.. كيف كان زميلهم حين كان تلميذا معهم فالبعض يقول :حين يغيب أي معلم عن حصته المحددة فإن رائدا كان يعلمنا خلال تلك الحصة أي مادة من المواد حسب ما يطلبه الطلبة ، وكان يتدخل في إصلاح ذات البين بين زملائه في أي إشكال وكذلك بينهم وبين المدرسين، لقد كان حازما عاقلا منذ صغره محبا لزملائه. رووا لناقصصا وطرائف عن زميلهم الرائد رائد تخص ذكاءه وأخلاقه لقد كان حريصاعلى ماينفعه ولا يذهب وقته هدرا، ولهذا أنا أقول دائما إن رائدا عاش حياة مكثفة ،هو صحيح عاش ثمانية وثلاثين عاما، ولكنها كانت مركزة ومكثفة ،ولم يضيع منها الكثير كما تضيع الأعمار في تراكم أيام من غير جدوى وعمل وإنجاز وفي لهو وفي لا مبالاة وغيرها من الأمور ،كانت حياته كلها جدا واجتهادا وعملا ومثابرة وإنجازا على المستوى التعليمي وعلى المستوى الأدبي وعلى مستوى التدريس وعلى مستوى العمل بوجه عام، كأنما كان يحس بأنه لن يعيش طويلا لقد أنجز مالم ينجزه أناس عاشوا إلى السبعين أو إلى الستين أو غيرهما .
أحد زملائه يقول: كان رائد يشرح لي الدروس فأفهم منه أكثر مما أفهم من المدرس .قال أناعادتي ما أحب أن أقرأ في البيت وأذاكر ولكن لما أستمع لشرح رائد خلاص أفهم وإن كان سريعا،وإذا ما طردت يوما من المدرسة كان يأتي رائد فيتوسط لي أو يأتي لي بمن يضمن علي عند مدير المدرسة .
وعندما سأله زميله أن يشرح له دروس الإنجليزي في وقت ضيق لم يستطع ذلك ،وقال نحن اليوم لدينا اختبار متى أشرح لك ؟ ،ولكن أنت اقعد إلى جواري وإذا استطعت أن تنقل لك جواب سؤال أو سؤالين مني فافعل . فقعد الطالب إلى جانب رائد في اختبار اللغة الإنجليزية ونقل من ورقته، نقل كل شيء حتى الاسم أي نقل اسم رائد بالإنجليزي، ولما اكتشف المعلم هذه القصة ووجد لرائد ورقتين استطاع يميز ورقة رائد عن الورقة الأخرى
التي حصل صاحبها على (صفر ) نتيجة لهذا التصرف.

الطلاب عادة حين يمتحنون لابد من مراقبتهم بجد وإلا فإنهم سوف ينقلون من بعضهم حتى إذا كانوا طلاب في الدكتوراه إلا من رحم ربي .
كرسي التلمذة هو من يفرض هذه المسألة مهما يكن خطأ فهم يرون هذا الأمر تعاونا والذي لا يسمح بذلك
يعدونه أنانيا .
فعلاقتهم ببعضهم وعلاقتهم بالمدرسين وفي عمل المقالب وصناعة الأعذار وافتعال القصص
وغير ذلك يكونون طلابا وزملاء في أي مرحلة كانت فهم يحكمهم كرسي التلمذة مثلما نقول إن كرسي الحكم أو كرسي الرئاسة له طلعاته ومناخاته
المتقلبة .
ومن القصص المأثورة عن كرسي التلمذة أن أحد الشيوخ المعلمين قعد يوما للدرس ليتعلم شيئا ينقصه وخلال الدرس كان يحرك جرسا بالقرب من كرسيه فيثير إزعاجا وحين كان الأستاذ ينتبه إلى مكان الصوت فيرى أمامه هذا الشيخ فيقول في نفسه : غير معقول أن هذا الشيخ هو الذي يحرك الجرس ، فيتهم آخرين ولكن بعد عدة مرات اكتشف المعلم أن هذا الشيخ هو الذي كان يحرك الجرس في كل مرة،
حينذاك انفجر الشيخ التلميذ ضاحكا وقال: لست أنا من يفعل ذلك ولكنه كرسي التلمذة، اسألوا الكرسي كرسي التلمذة هو الذي فعل ذلك !!
وقال تلميذ آخر من زملاء رائد : مرة جاءت إشاعة إلى البلاد ووصلت إلى التلاميذ وهي أن أبا هذا التلميذ الذي يروي القصة قد قتل في المعركة في معسكر العبر أثناء الغزو الشمالي للجنوب في عام ١٩٩٤م، وكان هذا الطالب لا يعلم بهذه الإشاعة وكان ذلك من حسن حظه فلو كان سمع بذلك لصدق الخبر .
الشاهد هنا أن رائدا وزميلا له آخر علما بالخبر الإشاعة، وذهبا مع زميلهما ولم يعلماه بالخبر ، واشتريا البسكويت والشراب حفاوة بزميلهما وتعاطفا معه قبل أن يصله الخبر من غيرهما. وهكذا ظل هذا الطالب يذكر ذلك الصنيع حتى رواه لنا الآن.

في مايخص ديوانه الأول رحمه الله تعالى وهو الديوان الوحيد الذي أصدره خلال مدة حياته القصيرة ، ومع هذا فقد تأخر نشر ديوانه الأول ،فالشاعر رائد القاضي منذ أكثر من عشرين عاما، وهو يكتب الشعر الفصيح الرصين الذي يستحق النشر ،والذي يستحق أن ينشر في ديوان . هذا التأخير كان بسبب ظروف الشاعر المعيشية القاسية . لقد عاش عمره كله طالبا حتى توفي وهو طالب دكتوراه .
توظف معلما بعد سنوات من تخرجه من البكالوريوس ولديه أسرة يصرف عليها فضلا عن تكاليف مواصلة دراسته العليا لهذا لم يكن قادرا أن ينشر أي ديوان من أعماله الشعرية ،
ولكن الشاعر جهز ديوانه الأول على أمل أن تتولى أي مؤسسة ثقافية طباعته ولكن ذلك لم يتحقق،وكنت أنا ملما بظروف الشاعر وبالواقع الثقافي في زمن الحرب التي تطحن البلاد والعباد وكان عدد من أترابه الشعراء قد نشروا دواوينهم وكان ديوان رائد يستحق النشر بجدارة فقررت أن أعمل على نشر هذا الديوان وأبلغت الشاعر بذلك ،ولم أطلب منه شيئا ، فتواصلت مع زملاء وأصدقاء من أهل الخير والمسؤولين المتنورين من أبناء حالمين الذين يقدرون الإبداع والثقافة وأهميتهما وهم يعرفون الشاعر ويقدرون شعره وإبداعه، ويمثل لهم رمزا ثقافيا ينبغي الاعتناء به ولكنهم كانوا بحاجة إلى من يثير الموضوع لديهم فالشاعر نفسه لم يحب أن يثير هذه المسألة
عند أحد كان عزيزا ومعتزا بنفسه
ومعتدا بشعره ولم يشأ أن يثقل على أحد . حتى أنا حقيقة لم أثقل على أحد لقد سار الأمر بكل سلاسة وتوفيق لقد تجاوب معي الذين طرحت عليهم الأمر وكانوا عند مستوى المبادرة والتقدير لهذه المهمة الثقافية .
وأجد أنه من الإنصاف أن أذكرهم في هذا المقام فهم يستحقون الذكر والشكر .
هؤلاء هم على النحو الآتي:

الشيخ صالح أحمد صالح البشيري،
والأخ عبدالفتاح حسين حيدرة
مدير عام مديرية حالمين، والأخ ناجي عبدالله ناشر رئيس القيادة المحلية للمجلس الانتقالي في حالمين، والأخ عبدالرقيب عبدالقوي العمري مدير عام مطار عدن ،والأخ وضاح نصر الحالمي وكيل محافظة لحج، والدكتور عبدالرحمن مقبل عبدالله طبيب الأطفال المعروف،
والشيخ علي حسين يزيد رجل الخير المعروف، والمحامي عبدالخالق محمد مرشد، وكذا اتحاد أدباء وكتاب الجنوب ممثلا برئيسه د جنيد محمد الجنيد .
كان محصلة هذا التعاون هو ماطبعنا به الديوان في تلك المدة في حدود سبعمائة ألف ريال يمني .
ففرح الشاعر كثيرا عندما رأى ديوانه الأول يشرق أمام عينيه كما يفرح الأب وهو يرى طفله البكر يولد أمام عينيه بعد انتظار طويل . وفعلا كان الديوان إضافة إلى المشهد الشعري في الجنوب، وإضافة إلى المكتبة الشعرية الحديثة، وهو ديوان نستطيع أن ننافس به أي ديوان شعري صدر في أي بلد عربي كان لشاعر من جيل رائد القاضي .

ولكن ماذا علينا اليوم، وقد رحل صاحب الديوان ،وهذا الديوان لم يجمع فيه كل قصائده، وهي كثيرة وقد كان شاعرا مكثرا خصب الإنتاج، والعطاء ،وكما ذكرت إنه عاش عمرا مكثفا في عمله وعطائه ودراسته ،كأنما أحس بقرب الرحيل، والعمر على كل حال لا يقاس بالسنين والأيام والساعات ،ولكنه يقاس بما أنجز خلال هذا الزمن طويلا كان أم قصيرا ، الإنجاز أو العمل هو مايبقى وما ينفع، قال تعالى (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض) حتى الله سبحانه وتعالى ينظر إلى الأعمال، وليس إلى الأيام والسنين .
سنكتب ماينبغي علينا هنا تجاه الفقيد حتى تكون هذه شاهدة علينا يوما ما . فما الذي بإمكاننا أن نعمله من أجله بعد موته رحمه الله؟ فهو قد خلف أسرة.. خلف أولادا قصرا ،وكذلك خلف لنا شعرا منه ماطبع في الديوان الذي ذكرناه والكثير لم يطبع ولم ينشر فسوف نعمل على نشر أعماله الكاملة، أي هذا الديوان الذي طبع ونشر بالإضافة إلى القصائد التي لم تنشر فيه تحت عنوان : الأعمال الكاملة للشاعر رائد القاضي بعون الله تعالى، ولدينا رسالته للماجستير ،وهي رسالة نقد موضوعها طريف ومعاصر
حيث تناولت جمالية العنوان في الشعر اليمني المعاصر .
وفيما يخص أطروحته للدكتوراه رحمه الله تعالى فقد أنجز منها ماأنجز وهو مايقرب من النصف تقريبا، وسوف نحاول مع القسم ومع الكلية والجامعة أن تجاز هذه الأطروحة، وأن ينال صاحبها درجة الدكتوراه ، ولقب الأستاذ المساعد ،فهو للآن معين تعيينا إداريا ويستلم راتبه من مكتب التربية والتعليم في لحج، وقد عانى مثل غيره من حالة الانتداب الطويلة التي انتهت إلى قرارات تعيين إداري من غير تعزيز مالي .

كان رائد صاحب موقف سياسي واضح ومعروف سواء أكان في شعره أو في مشاركاته أوفي مقالاته مع إنه كان معتدلا ومتوازنا وعقلانيا وواقعيا حتى في شعره ، كان مناضلا جنوبيا من ضمن جيله المناضل في سبيل انتصار قضية الجنوب الوطنية واستعادة دولته المستقلة وكان شعره شاهدا على ذلك .

كانت حالة الفقر والعوز ظاهرة في حياة رائد وقد تسللت إلى شعره الذي
صور الحرمان ومحاولة الخروج من تلك الحالة والتعبير عن الطموح والأمل في كثير من شعره .

فهل أدركته حرفة الأدب ؟
كما قال الشاعر القديم يصف أديبا فقيرا:
لكنما أدركته حرفة الأدب !
مشيرا إلى أن الأدباء ارتبطوا بحياة الفقر والعوز ! فهل هذه ظاهرة عامة
في الوسط الأدبي؟ إن كلمة حرفة في الشطر الشعري لا تعني المهنة أو الصنعة ،ولكن تعني الفقر، والحاجة، والعيشة البائسة .
لقد اختار رائد هذا الطريق طريق الأدب وتخصص فيه طالبا جامعيا ودفع ضريبة ذلك إذ أدركته حرفة الأدب رحمه الله تعالى.
وعلى الرغم من هذا الحال الذي ارتبط به فإنه كان بإمكانه أحيانا أن يصرف وأن يستمتع مثل أي فقير تسنح له الفرصة بين زمن وآخر ولكنه لم يفعل ذلك لأن عقلانيته وجده يمنعانه عن ذلك ، فهو ينظر إلى مستقبل أيامه وإلى أسرته الصغيرة التي تنتظره والالتزامات التي عليه ، لهذا كان صاحب هم وصاحب قلق وصاحب مسؤولية وحزم وصاحب تدبير رغم أنه لم يبلغ الأربعين بعد . فهو ليس من الذين يدينون بهذا الشعار
الشعري :

ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها

ولكنه ينظر في عواقب الأمور، وقد كان حتى في شعره عاقلا ورصينا
على ما في شعره من زخم عاطفي
وخصب خيال ولكن ما وراء ذلكما كان عقلا وفكرا متوازنين فلا عبث ولا طيش ولا نزق ،ولهذا شعره يصلح بأن يدرس تداوليا لأن أفكاره تصلح للتداول قيما وأخلاقا وفلسفة وتجارب ناضجة.
فإن يكن لم يعش زمن الشيخوخة، ولم يبلغ حتى زمن الكهولة فقد مات شابا، ولكنني أرى بأن الكهولة والشيخوخة قد عاشاهما خلال ما عاش من سنين بحكم رصانته وهدوئه ونضجه فكما قال العقاد رحمه الله :(لقد كنت شيخا في شبابي فصرت شابا في شيخوختي) يقصد من حيث السلوك المعتدل والرفق في شبابه جعلاه يحتفظ في شيخوخته بملامح من شبابه لأنه لم يستهلكها بتهور ويعبث بها . هكذا كان رائد في طفولته وشبابه مثل العقاد ، رحمهما الله.

ومع أن رائدا أصغر مني بكثير وكان طالبي إلا أنني كنت أفزع إليه أحيانا لأستشيره في هذا الأمر أو ذلك ،أو أشكو إليه هما أو ظلما فهو رغم همومه الخاصة كان يواسي الآخرين، ويجد لهم مخارج وينصح لهم .

بقيت كلمة !
ماذا عن رائد في دينه وتقواه ؟
إذا كان ديدنه التوسط والاعتدال في شعره وحياته فمابالك كيف يكون في جانب الدين عبادة ومعاملة ، عقيدة وسلوكا ؟ لا أزكي على الله أحدا، ولا أجزم على ما في قلوب الناس ، ولكني أجده عميق الإيمان، حساس الضمير ولكن من غير تشدد، أو تطرف،
أو الوقوف عند الشكليات والقشور فقط ومن غير مباهاة ومظهرة فالدين لله تعالى وحده.

في آخر أيام حياته كان يعكف على ترميم مسجد قريته الأثري .
وكان قد حصل على دعم من أحد رجال الأعمال تشجيعا له على أدبه
فما كان منه إلا أن تبرع به لترميم هذا المسجد العريق حريصا على ألا
تتغير ملامحه القديمة الأثرية بما تحمل من نكهة التاريخ العبقة .
رحم الله تعالى رائدا ،
وجمعنا به في مستقر رحمته
ورضوانه .

زر الذهاب إلى الأعلى