آداب وفنون

الغيمة الزائرة ..

خاطرة : فاروق مصطفى

 

فتحت عيناي المثقلتين بغُبار الواقع الضحل والمُرهقتين من طيف الألوان الباهتة الناتجة عن تقلبات وضع المدينة وقساوة طقسها في شهر أيلول وكأن تحالُفاً سرياً نشب بين وضعها القاتم وطقسها القاسي ليكشف عن مدى الانتماء الحقيقي في نفوس من يقطنونها، وتلفحهم رياحها الحارة المسمّاة شعبياً بالكهر وتُعيي صدورهم تلك الأكاسيد المُنتشرة في هوائها والمُنبعثة من مولّدات الكهرباء الصغيرة والتي باتت جُزءً من ثقافة المدينة وتُراثها المستحدث بأيدي العابثين .

ثمة أشعة بيضاء تسقط على جفوني تُحاول برفق اختراقهما والتسلُّل إلى دماغي لتُخبرني أن حدثاً مشوِّقاً يتكرر بِضعة مراتٍ في العام قد بدأ بالحدوث حقاً وأن هنالك دقائق معدودة توحي بانفراجة قريبة وحتى لو لم تحدثُ قريباً ولكنها ستحدث يوماً كما أخبرني ذلك الشعاع الأبيض الذي جاء ليربتَ على الأرض المنهكة في ذات الآن ويُخفّف من حرارة تربتها المتوهِّجة بفعل طقس المدينة القاسي وذرات هوائها الممزوجة ببقايا جُزيئات بارود تُعيد لمن يستنشقها ذكريات أيام امتزجت فيها أجساد الشرفاء ودمائهم مع مكونات المدينة الجيولوجية والجغرافية لتصنع لوحة نصر لا يكررها التاريخ.

تتصافحُ جُزيئات الهواء وبُخارُ الشاي الأخضر المُتصاعِدُ من فنجاني يرقُصُ على إثرها رذاذ شتاء تشرين الثاني طرباً بنبرات سيدة الشام فيروز وتُشفى جِراح العام بأنغام اُغنية بأيام البرد بأيام الشتاء والرصيف بحيرة والشارع غريق ، فتغرقُ على وقعِها ذاكِرتي بذكرياتٍ عندما لجأت إلى حيطان منزلنا القديم الأربعة هرباً من برد صنعاء التي كُنتُ اقطُنها ذات يوم وأنزعجُ من شتائها إذا هاجم ازقتها ذات يوم فأقعُ حينها حبيساً لجُدران المنزل أياماً وأحياناً اسابيع مِن الإقامة الجبرية بين تلك الجُدران لينتهي بي الأمر كلاجئ بين ترددات قناة عدن الفضائية باحثاً عن قبسٍ من دفئ عدن استرقهُ من نبراتِ الموسيقار أحمد قاسم عندما تصدحُ صباحاً من بين ثقوب سماعة التلفاز بكلمات اُغنية مرحباً بالصباح
تِلك الكلِمات التي تمنحني الرغبة على الخروجِ صباحاً في وجهِ البردِ القارس ومُقاومة هجمتهِ الشرسة التي تكادُ أن تقضي بداخلي على شغف استقبال يوم جديد بداخلي.

تواصلُ حواسي المُغادرة شيئاً فشيئاً عن العالم الحسّي صوب نموذج مثالي للمدينة نسجتهُ تلك الأجواء ولونتهُ الأشعةُ البيضاء المُنعكسة من بحرِ المدينةِ المُتعطِّش لتلكَ الأجواء وأنغام قطرات الودق وهي تربتُ على حجارةِ بيوت المدينة البركانية العتيقة لتُزيل عن كاهلها عبئ السنين العِجاف وغُبار الدهر.

بدأت رحلةُ عودتي إلى الواقع مفرغاً شيئاً فشيئاً عندما بدأت تلك الغيمةُ بالاضمحلال والتلاشي ولسان حالي يُخبرُني أن الأمل بالله لن ينقطع وأن المدينة ستنفض جراحها ببقايا حياة تُقارع اليأس فهذه جنة الدنيا حواها كل فن.

زر الذهاب إلى الأعلى