آداب وفنون

حديثٌ فلسفيٌّ مع قهوتي .. 

خاطرة : فاطمة بشير أحمد 

على غيرِ عادَتِي اليومَ صحوتُ وبريق لمعان عينايَ متوهج، أخذتُ معطفي وانطلقتُ لمكاني المفضّل، بجانبِ محطة توقف الحافلاتِ لافتة مكتوب عليها مقهى الكتَّاب، توجهتُ إليه بعدَ أن بادلَني نفس الابتسامة ذاكَ الطفلُ بائع المنديل الذي يقف على بوابةِ المقهى .

ارتشفُ قهوتي بكلِّ متعة، وكلُّ أمرٍ في حياتي يتقافز لذهني، لطالما كانت تلك الأفكار المتطرِّفة التي استغرقتُ في ملامستها أعواماً ما دفعتني بإصرارٍ للكتابة، لكنِّي اليوم أتنفس شفاءً كهدنة سلامٍ أبدية،  والتقت أجزائي في تقاطع واحد هذهِ المرَّة بعدَ أن دعسْتُ كلَّ من بدا لي لغماً ، مؤمنة أنَّ أمثالي لا يتناثرون من أمثال هؤلاء، يا ترى ما الذي سيدفَعُنِي للكتابةِ اليوم؟!.

أكملتُ قهوتي اللذيذة وطلبتُ أخرى، على كلِّ حال لم أكن لأفوِّت نَسمة الهواء الباردة التي كانت تعمُّ المكان، خصلات شعري تتراقص ولا زلتُ أشعرُ أنِّي فوق السحاب أقطن.

على الطاولة جريدة قديمة، وعلى الجانب الآخر لَوَّحَ لي عجوزٌ سبعينيُّ العُمر، لطالما كتب بقلم مكسورٍ غيظاً لِمَا أحدَثَتهُ البشرية اليوم، ابتسمتُ له وعدتُ للجريدة تحديداً لتلكَ البقعة التي فيها اسمي دون كلِّ الأسماء ، سيدة الطراز الأول  حديثاً، ضحِكتُ كوني أثرتُ الجدلَ على أولى صفحات الجريدة، ورغم كلَّ السعادة العارمة التي أشعر بها أخرجت حبري وورقة بيضاء، فكيف لا أكتب وأنا سيِّدةُ ريشَتي.

بدأتُ أسطر حروفي بتساؤل، ماذا لو أنَّ جمال هذا الكون والعالم كلِّه بأن يكون ورديَّاً؟!!

وضعتُ البرتوكول الخاص بي لكي تتصادم الفلسفات على ورقتي،

رباه !!

كم يروق لي افتعال الانفجارات بمعايير ثقيلة لأصنعَ تجربة إكلينيكيَّة خاضعة للسيطرة، هذه العدوى الكامنة التي أحدَثَتها البشريةُ اليوم أحتاجت طابعاً ديناميكيًّاً حتى تتحقق بكلِّ هذا الانسجامِ في التدمير.

كتبتُ وعلى وجهي ابتسامة ساخرة؛ ماذا لو أنَّ فلسفتي صنَعَت فلسفة أخرى بعنوان آخر كالضميريوجيا مثلًا ؟!!

لنحييَ الضمير الذي أُزهقَ ضحية اللَعِبِ على الوتر الإنساني، فقد تجاهلَ النَّاس الإنطولوجيا في علم الوجود حينما كنَّا بحاجة إلى القليل من الإكسيولوجيا في القيَم، والإبستمولوجيا بأنَّنا على وجود تام نتنفَس.

تبًّا !!.

العالمُ كلُّهُ لا يريد فهم قاعدة كيفَ نعلمُ بأنَّنا نعلم، وسقَطَت هنا نظريةُ المعرفة .

لو أنَّ العالم لديه القدرُ الكافي  من البراغماتيَّة في تصوُّرِ تلكَ الأدوات، وكيف لها أن تُحدِثَ كلَّ هذهِ التأثيرات، لَمَا حدثَ كلُّ هذا الانفلاتِ ضدَّ البشريَّة.

متى يعلمُ الأفرادُ بأنه عليهم واجب أخلاقي، فقط التحلِّي بالإيثار، كأن نتخلى عن المصالح والعيش من أجل الآخرين، تمسح على رأس أحدهم بلمسة واحدة، وتُطمئنهُ بأنَّ القارِب قد عاد، أو تنتشل كلباً رِجلهُ مكسُورة كي لا يصطدم بالمَاشية.

وقتل العنصريَّة تماماً بأنْ أرى أبيَض وأسود، أجنبيًّاً وعربياً تتصافح قلوبهم حبًّاً قبل أيديهم.

فلسطينيٌّ وسوري، يمنيٌّ وصومالي أو شخصٌ من بورما، عراقيٌّ وليبي  يتداولون الحديثَ والضَحِكاتِ على طاولة واحدة تعويضاً عنِ الدمار الذي حلَّ بهم وبأوطانهم، صوت ضحكة الأمهات يتعالى نغماً على أريكة المنزل ويتناولون الكعكَ مع ارتشاف القهوة أو الشاي.

الأطفالُ يلعبونَ بأمان والقتَلَة المأجورون لا وجودَ لهم سوى على صفحاتِ القصصِ المصوَّرةِ، وأيسَرُنا يَنبض نقاءً ، لنرتاحَ قليلاً  من هذا المرض.

كلُّ ما يحدث خَلق اضطراباً نفسيًّاً إكلينيكيًّاً، ولهذا السبب تحديداً لا أحبُّ الخروج من قوقَعتي ، أخشى من التلوث بمثل هكذا عالم.

عليَّ العودة للمكتبة الآن فقد طُبِعَت النُّسخة الجديدة من كتابي المفضَّل وعليَّ أخذُها وقراءتُها، كم أحبُّ فكرةَ أنَّ البيبليوفيليا والبيبليوفيليزم ملتصقة بي.

نظرتُ إلى صديقي السبعيني الملوِّح لي بعد أن أكمَلَ السيجارة العشرين، حينما ارتفعَت نسبة الآدرينالين بداخله لتَذكُّره ما تركتهُ مخلَّفات الحرب في هذا العالم، وقبل مغادرتي المكان بعشر دقائق مُوجِّهة لهُ رسالة خفيَّة.

كانَ قلمُكَ يمتلكُ رؤية على حق أيُّها العم، وبروتوكولاتي لم تخطِئ أبداً، فليكن الله حفيًّاً بِنَا.

أخذتني ومشيت بعد أن أسقطتُ قليلًا من مأساتي الفلسفيَّة التي لا تُقدَّر بثمن على تلك الطاولة تحديداً بجانب قهوتي.

زر الذهاب إلى الأعلى