آداب وفنون

حصن الغويزي (حدثٌ في الذاكرة)

كتب: فاروق مصطفى

مشهد من رواية
تربع على عرش الذاكرة

لِبعضِ الأماكن قُدرةٌ سحرية على التخاطب مع القلب والحديث مع الوجدان بكلماتٍ لا يُسمع صداها ولكنها سُرعان ما تخترق جدار القلب وتشُق طريقها إلى العينين فتبدآن بالرد على مصادر تلك الكلمات تارة بالتحديق في تفاصيلها والغوص في دهاليزهِا والسفر بين فواصل احجارهِا نحو عصور عجزت أن تجسد تفاصيلها نصوص الأدباء و ريش وألوان الفنانين، وتارة تخضل العينين وتمتلئُ بالدموع دون سابقِ إذن لتبكي ألمًا على حالِ حجارةٍ نحت الزمنُ على مُحياها خدوشًا وشكَّل من تلك الخدوشِ كلمات لا يقوى على قرائتها إلا من حدثتهُ الأحجار وسمحت لهُ أن يُبحِرَ في تفاصيلها وينسجُ من تلك التفاصيل سطورًا تبُثُ عبرها برسائلٍ محفوفة بالأشجان والحنين تُلامِسُ وجدان العامة….
الرابعةُ عصرًا بتوقيت المدينة و أشعةُ الشمس تتعامد على تلكَ الصخرةُ الصماء المُتربع على عرشها ذَلِك الحُصن الحصين الذي تُحدقُ نوافذهُ الخشبية العتيقة في الاُفقِ البعيد لتوحي للقادِم أنه اقترب حقًا من مدينة المُكلا وبات ضمن نطاقها الجغرافي ، بات الأمرُ و كأن المدينةُ تُمارسُ طقسًا يوميًا لم تنقطع عنه مُنذُ قُرونٍ مضت وفي كُلِ أحوالها وكأنها تُحاولُ جاهدةً الهروب نحو زمنٍ عانقت فيهِ الطبيعة سكان المدينة عندما احتوتهم بيوتًا بُنيت من طين الأرضِ وحجارةِ الجبال بعيدًا عن كيماويات البناء والملوثات الاُخرى و كان من يقطنها هم اولئِكَ الذين توطدت علاقتهم بالبحرِ فهو رفيقهُم الأبدي ومتنفسهم ومصدر رزقهم الرئيسي إن لم نقُل الوحيد في مدينةٍ عُرِفت بإحتواء بحرها على كُلِ انواع الأسماك والكائنات البحرية
بدأتُ بالإقترابِ مُحدِقًا بِتلك البناية المُتربعةُ على الصخرةِ الصماء لأشعُر بصمتٍ غريب يسيطِرُ فجأةً على كُل ما حولي رُغمَ صخب المدينة من حولي وتبادلي للحديث دون شعورٍ مع من كانوا برفقتي في تلك اللحظةِ، دلفتُ تِلك الساحةُ الخالية المحيطة بِذلِك الحُصن التي تكاد تخلو إلا من بضعةِ اشجارٍ وارفة الظلال يحتضنُ ظلها من تجاوزت قدماهُ عتبة باب سور تلك الساحة
واصلت مسيري ببطءٍ صوب الحُصن غير مُكترثٍ لالتقاطِ الصور الفوتوغرافيه فثمةً رغبة جامحةً بداخلي تدفعني للبوحِ عن نصوصٍ بداخلي كانت كفيلة بأن تصنعَ صورًا للمكان لأرسمهُ حيثُ شئِت بكلماتي واُجسِد ملامحه ببضعةَ سطور .

وصلتُ إلى منعطفٍ وعِر تفصلهُ عن بابِ الحُصن بِضعة درجاتٍ حجرية نُحِتت على حجارة ذلك التل، بات الأمرُ أشبه بأني اقف بنقطةٍ تفصِلُ بين الحاضر والماضي العتيق يتلاشى بقربها ضجيج المحركات وتضمحل الاكاسيد الناتجة عن عوادمها القاتلة ، لا مظهرَ حداثةٍ هُنا فكُل ما حولي شُيد من مواد الأرض وخامات الطبيعة حتى ذلك اللون الأبيض الذي يلون تلك الدرجات والذي لم يضمحل رونقهُ لقرونٍ مضت، لينتهي بي المطاف بجانبِ باب الحُصنِ الخشبي المصنوع بطريقةٍ بدائية الذي لامستهُ برهة لاستحضِر هاجسي الادبي الذي اعياهُ صخب القرنِ الواحد والعشرين فالنصوص الساحرةُ لا تُصنع إلا إن كنت ذا علاقة وثيقة بالطبيعةِ ومكنوناتها، بالماضي ورونقه المفقود وعبقُ الذكريات وتأريخها المنسي بين العامة

زر الذهاب إلى الأعلى