آداب وفنون

أرواح مسلوبة.

قصة : سيناء الروسي

في موكب من الصمتِ، تهب نفحة هواء باردة قادمة من العدم إلى روحي، تتخذ وضعيّة مزرية، تتعقبُ أثر شهقة في طريقها إلى التلاشي.

 

 

لم ينتبه الكثير من حولي إلى غياب روحي المحلقة، فما أكثر العيون الغارقة والأرواح الهائمة في عوالم مختلفة.

 

 

عمري تسعة عشرَ عاما، تقتصر حياتي الكئيبة باستيقاظ حواسي دفعة واحدة في الصباح الباكر والذهابِ إلى عملي القريب من المنزل، وفي المساء إعداد وجبة العشاء لأفراد أسرتي الخمسة، الذين لا أرى أحدا منهم إلا كل أسبوع على طاولة الغداء؛ مع أننا نقطن في نفسِ المنزل المكوّن من طابقٍ أرضيٍّ إلا أنَّ كلَّ فردٍ منهم منشغل في حياته كليا. فالأوقات التي نجلس فيها مع بعضنا لا تكاد تُذْكر.

 

على مائدة الغداء يقهقهُ أخي ضاحكا بصوت عال؛ تَلتفت الرؤُوس نحوه وتلتهِمه الأعين.

 

 

يسأل أبي متعجبا :

 

ما الذي يضحِكُك؟!

 

يرد بابتسامة بلهاء وهو يحك رأسه :

 

لا شيء، فقط أتحدث مع صديقي.

 

نظرتُ إليه بنظرة خاطفة، كانتْ يده اليمنى بحركة روتينية تؤدِّي واجبها في إشباع غريزة جوعه، ويدهُ اليسرى ممسكة بالهاتف، وعيناه تُحدِّقان بالشاشة بلا التفاتة.

 

 

بعد وجبة الغداء نجلس بالقرب من بعضنا، أضع صينيّة بأكواب الشايِ الساخنِ على الطاولة وأُتبِعُها بحلويات من صنع يدي. ينطلق البخار على سطحِ الكؤُوس، تنقضي الدقيقة، وأخرى، تبقى سحابة من بخار الشاي مُعلَّقة في الجوِّ للحظات، وشيئا فشيئا تتلاشى بعيدا.

 

 

لطالما شعرتُ بالوحدةِ، الوحدة التي يكون فيها الجميع حولي بأجسادهم فقط، خارج حدود الوقت والمكان،  أجلس في صمت وبلا حراك، أراقبهم بعينين متعبتين؛ أخواي يتهامسان وينظران لهواتف بعضهما؛ والدي أمام جهازه المحمول، ينقر عليه بنهم، وبين الحين والآخر يعدِّل نظارته الطبية، ليرى الشاشة بوضوح؛ والدتي منهمِكة في هاتفها وعلى شفتيها ابتسامة عريضة؛ وأنا كقطعة أثاث زائدة، تتدحرج من زاوية فمي ابتسامة تعيسة؛ أقف تارِكة أكواب الشايِ الباردة خلفي وأغادر كالعادة مملؤة بالخيبة والوجع.

 

 

عبر نافذة غرفتي يظهر شعاع قُرمزي يتلاعب على وجهي، ويخترق عينيّ المغلقتين، يهمس صوت مِن وراء الأفق بهمس ضئيل بالقرب من أُذني:

 

ستكون الأمور على ما يرام.

 

أهمس له بنبرة حانية :

 

– أنا أشعر بالحزن!

 

قالت لي أمي- صباح اليوم التالي- بأنْ أعود مبكرة من العملِ لأعِدَّ وجبة الغداء؛ كونها ستذهب إلى السوقِ مع صديقتها الجديدة، التي تعرفت عليها عبر “الفيسبوك”. هززت رأسي موافقة، وانسحبتُ بهدوء.

 

 

تلتهب الأفكار في عقلي، تتصاعد فيه الحرائق، وينتشر الدخان كمحرقة لأيامي القديمة، أشعر بالألم والفراغ، والسبيل الوحيد للنجاة هو أن أتوقّف عن الحياة.

 

كان الأمر سهلًا جدا بالنسبة لي، فقط بضع خطوات، وقفزة أمام السيارات المسرعة لينتهي كل شيء.

 

 

خطَوت خطوة إلى الأمامِ، وقبل أن أضع قدمي الأخرى رأيت طفلًا يُوَدِّع والدته بقبلة على جبينها. قبل صعوده حافلة المدرسةِ لوَّح لي بيده، وأرسل لي قبلة في الهواء؛ استنشقتُها بعمقٍ، وابتسم كياني كله.

زر الذهاب إلى الأعلى