تأملات في شعر لطفي
كتب: فهمي غانم
هل يحقق الشعر خاصة والأدب بشكل عام شغف المتلقي للمتعة والجمال والفائدة ام أنّ الشعر مازال ذالك القفص الجميل الذي يحبس فيه الشاعر نفسه ليقضي حاجته الروحية وتأملاته الإبداعية وهذا يقودنا إلى مدى استجابهِ الشعر والأدب بشكل عام إلى الضرورة الحياتية باعتبار الشعر جزء من الحياة وهو بذالك معني كغيره من الفنون ليس بنقل الواقع حرفياً ولكن إعادة خلقه وتوصيفه وفقاً لمعادلات جمالية وإبداعية وفنية وهنا يأتي الحديث عن شاعرنا الفذ لطفي جعفر أمان المولود في عدن في 12مايو 1928 ورحلتة الإبداعية منذ ديوانه الأول /بقايا نغم/ حيثُ استقام الشعر عنده من منظور تجربة ثرية مكنته من الإمتداد بكلِّ أريحية على المدى البصري والسمعي في معقل الشعر والأدب والثقافة عدن فملأها حضوراً وكان ممن أجادوا رسم الخطوط الهندسية للشعر وخاصة الرومانسي وبمتلازمات نصية وإيقاعية واحترافية عالية تستحضر أمامك مشاهدَ تحققُ الأناقةَ التعبيرية واللياقةَ العاطفية والإصطفاءَ النغمي للوصول إلى النقاء الإبداعي والألق الجميل وهذا يفسر ديناميكية سلسة لاترضى بالسكون أو الاستغراق في الصنمية النصية التي ظلت تجر مفرداتها القاموسية من دفاتر التاريخ القديمة ومن محرابها الآيل..
إلى متى؟ إلى متى؟
أحتار في حبك كذا
واسأل ظنوني عن هواك
وأخاف يضيع عمري سدى
قلّي بصراحة..
إيش نهاية حبنا
من بعد ذا
هي كلمة منّك..
كلمة واحدة
ياكذا وإلاّ كذا
لذا لاتجد القيثارة لطفي إلاّ في كلِّ الأمكنة التي تتسم بالقدرة على توليد الصور وإستمطارها من ذالك المجال الإبداعي الجميل وتموضعها في النسيج العضوي لشعره وتحديث عناصر البيان فيها وهي التي قفزت بلطفي إلى موقع الريادة لهذه المدرسة واحتلَّ قمةَ جبلِ الثلج منها بشحن مفاعيلها وجمال مفرداتها ونضوج محتواها فهو الذي مدّ الوصال إلينا ولعمري هذا واحد من نثرات الوعي الراقي للشاعر لطفي الذي مكّنه من إستدعاء المقام الشعري في تماثلية تتوائم تماماً مع قدراته وسياقاته الإبداعية..
من جمالك من دلالك
من بهاءك
كلّ من شفاك
يقول ماشي كماك
كل مافي السحر
من فتنة هواك
وأنا ما أحب حد
شريكي في هواك
أنتَ من يزرع قلبَ الشمس
أضواءً جديدة
أنتَ من يعقد فوقَ المجد
أمجاداً عديدة
أنتَ من يبني من التخليد
آياتٍ فريدة
هنا يرثي الزعيم جمال عبد الناصر لكنه لايرثيه بصورة متشنجة وأعصاب نافرة بل يضعه في صدارة الفعل التشبيهي الذي يليق بواحد من صنّاع التحوّل العربي ورفعه إلى مقام الشمس وفوق المجد
لطفي أمان لم يكن شاعراً فحسب بل رسّام تشكيلي له عدد من اللوحات التعبيرية الناطقة بالجمال فكان يرسم بالكلمات بما يتصوّره في مخيلته وتعكسه دواخله وتعزفه أنامله وتجودُ به قريحته من أفانين الكلام وصدق المشاعر
ولعلَّ مايميّز أشعاره أنَّ كلماته لاتجسد وسطها البيئي الملئ بالثراء اللغوي ولاتتوارى خلف جدارن صمت القوافي القديمة بل تكشف نصوصه عن أريحية رومانسية يختار مادتها ومترادفاتها وسياقاتها المشحونة من حقل العواطف الصادقة لزمن إبداعي جميل في حقبةٍ فاعلة كان العبقري لطفي جعفر أمان واحداً من أربابها وعميد مدرستها في مدينته الفاضلة عدن هو صداها الناعم حيث كانت البيئةُ المحلية وشواهد الجبل والبحر والرمل جزءً أصيلاً من خاماته وشكّلت رافعته التي وضعته في صدارةِ الفعل الإبداعي
ياساحل أبين
بنى العشاقُ فيك معبد
كم من فتى يعشق
ويحن للرملة
لك يد تمتّد
من فوقِ المطلّع ويد
في صيرة تترقرق
والبحر والرمل
والبدر والحبيب يشهد
على الهوى والوداد
مابيننا الاثنين
كان إنتاجُ الشاعر الكبير لطفي أمان ودواوينه عنواناً كبيراً لحالةٍ ثقافية واسعة شهدتها عدن فكان أدبه وشعره إنعكاس لتلك المساجلات الأدبية التي غمرتنا بها الصحف والمجلات والدوريات التي عكستْ تلك المقاربات الذهنية والفكرية والأداء الثقافي المميز الذي أطّر لمرحلة تاريخية كانت عدن في صدارة المشهد العربي بكلِّ ثقة واحترافية وقد أسهمتْ تلك الحالة في ضبط الوعي وتحديد إتجاهاته وتوسيع الرؤية والتركيز على قضايا الساعة حينها وإعطاءها بُعداً وطنياً واجتماعياً كما هي فعلاً ثقافياً وادبياً وفنياً بما يضفي تنوعاً ثقافياً أرسل إشاراتٍ إيجابيةً عمّت المنطقةَ كلّها فلم تكنْ شاردةً ظرفية أو تدَخّل موسمي طارئ
كرّس لطفي الكثيرَ من أشعاره لقضايا وطنه الجنوب وعدَنَه بشكل خاص وبذالك ألجمَ بعض الأصوات التي وضعت لطفي وكأنّه خاصم التاريخ الوطني لشعبه وهو قولٌ مبالغٌ فيه..
على أرضنا بعد طول الكفاح
تجلّى الصباح لأول مرّة
وطارَ الفضاءُ طليقاً رحباً
وقبلّت الشمسُ سُمرَ الجباه
وقد عقدوا النصرَ من بعد ثورة
وغنّى لها مهرجانُ الزمان
تُزيّنُ اكليله ألفُ زهرة
نلاحظ فخامةَ العبارة وجزالةَ اللفظة وإنسياب الشعور الحلم إنّها لطائف القول سبكها في قوالب من الإحساس الوطني الرصين
وانت تقرأ شعر المبدع ابن أمان تحسُّ أنّه يتمتع بكارزيما شعرية وفاعلية إيقاعية وفرادةٍ نصيّة ومزاجٍ ثقافي جاءت اللفظةُ فيه منغّمةً تلوّنتْ بلونها الإصطلاحي والمجازي والتصويري في بناءٍ فني أفرغَ لطفي فيها ما يختزنه من مداركِ الكلام واسرارِ اللغة وتفاصيلِ اللهجة المحلّية فارتقى به إلى معارج البهاء الشعري الذي لا يقاوم..فهو لايلقي بيانا شعريا أو خطاباً منغماً بل يؤسس مداميكَ فعلٍ إبداعي فاللغةُ تبدو في الكثير من أشعاره وخاصة الغنائية منها وكأنّها في تشكيل فنتازي تتراقصُ في بهجتها وإنتشاءها لتعكس مساحةَ الضؤ الذي يختزنه دولاب الإبداع عنده..
وصفوا لي الحب
أكثر من مرة
قالوا لي الحب
من اول نظرة
عيون تناجي عيون
ترد عليها السلام
الحب رحلة جميلة
على ضفاف الجمال
فيها الأماني الظليلة
وفيها سحر الخيال
لاينظر الإنسان الوطني الأستاذ لطفي أمان لوضع بلاده نظرةً أحادية بل تعكس أعماله مستوى القلق والهم الجمعي ونبض المجتمع وتفاعلاته فهي تخفي روحاً مقاتلة وسلاحاً أمضى لمقاومة المستعمر وحساسيةً شديدة في إستبطان المعاني وإطلاق نفيره الشعري للدخول الى المناطق المسكوت عنها وتفجيرها شعراً من داخلها فهو لايميل إلى التجريد والتعميم أو الوصف والتعتيم لأنه يتكئ ببساطة على تراث وطني وتراكم نضالي لشعبه في مقاومة سلالات الغزو القادم من خارج الحدود..
أخي كبلوني
وغلَّ لساني واتهموني
بأني تعاليت في عفتي
ووزعتُ روحي على تربتي
لأني أقدّس حريتي
لقد خطَّ لطفي طريقاً جديداً واسلوباً سلساً ابتعد به عن تلك الأساليب النمطية واستخدم لغة ناعمة في تصوير مشاهده وتلوين عاطفته فأمدّ قلمه بحبر خاص من تنويعات البحور الشعرية واستقى منها ترانيمه الجميلة فأسّسَ لطفي بذالك معنى جديد وصمّمَ هيكليةً نصيّة مكّنته من تأسيس مايمكن أن نسميه بالقصيدة السردية التي تحمل صفةَ الملحمة لتنوع المشاهد والصور واستدعاء التاريخ الحديث لنبش الذاكرة الوطنية ليس لعرضها بل للوقوف أمامها بكل الإفتخار الوطني مستعرضاً ببناروما حيّة تاريخية وفنية وقياساً على هذا الكلام تبدو لنا قصيدته المشهورة /في موكب الثورة /شكلاً تعبيرياً أقرب إلى العمل الملحمي إذ تفاعلتْ الكلماتُ في جوفه وكأنّها في مرجلها وأخرجتْ لنا هذه التركيباتِ اللغويةَ القوية والعمل الشعري المشحون بالعاطفة الوطنية فانساق يتتبعُ تاريخَ نضال شعبه في سردية ناطقة وبروابطها الفنية المعتبرة
يامزهرَ الحزين..
أنا من قبلِ قرنٍ أو يزيد
كانت بلادي هذه ملكي أنا
خيراتها وفي خيراتها أحيا أنا
عهدٌ من الطغيان لن يُجددا
وحلّقتْ على المدى
ثورتنا تهتف فينا أبدا
ياعيدنا المخلّدا
فلذا قراءتنا لمثل هذا الشعر الذي ينقل فيه لطفي المشهد التاريخي فيكسبه حركة الحاضر عندما يتقمص فيه دور الراوي باستخدام أدواته لتجسيده درامياً كما هو تجسيداً شعرياً فهو هنا أقرب إلى البناء الدرامي الروائي المتسم بالحرفية والمهارة والتماسك والدهشة والجمال
إن لطفي يزرع مشاتله الفنية في وادٍ غير ذي زرع فيجعله خصباً ليحصدَ ثماراً ناضجةً هو ينجزُ النص بطريقةٍ منهجيةٍ قائمة على أساس المدرسة التي ينتمي اليها بمتعةٍ روحية اقترب فيها لطفي من الشعر الصوفي الذي هو نوع من التطهير الروحي..
أنا هذا وانتَ في القبر ثاوٍ
كنتَ مثلي
في عالمِ الروحِ تضيقُ
ولكنْ بالدّمعِ والحسرات
أينَ منّي انتَ
وأينَ أنا اليوم كلانا
في عالمِ الاموات
وانا سرٌّ في عالمِ الغيب
مستعصٍ عن الفهم
جوهراً وصفات
وقد اختلفَ النقّاد في تقييم تلك النزعة الصوفية الرومانسية والروحية الملتبسة عند لطفي المتأمل فالبعض قال إنّها محاولةٌ من التحلّل من أسرِ الجسد كعادة الصوفيين بينما قال البعض أنّها من سمات الرومانسية أصلا وليس لها علاقة بالتصوف لكن رأينا أنَّ تداخلَ العنصرين الروحي الصوفي القدري والرومانسي الخيالي هو عامل مهم استفادَ منه لطفي بحرفيةِ شاعر تأثراً بالشاعر السوداني الصوفي الشهير التيجاني يوسف بشير الذي هو هنا يرثيه ولانه تأثر أيضاً بذالك التيار الصوفي القوي في مدينته عدن إذ كانت مركز تصوف إقليمي يرقد فيها الكثيرُ من أئّمةِ السلف الصوفي الصالح فهي بذالك مزار روحي مهم لوجود هؤلاء الأولياء والصالحين الذي انعكس صداهم في بعض أشعاره..
على كلٍّ الرومانسيه ليست هي خذلان ثقافي أو موقف عدمي كما يصورها البعض بل هي اتجاه لترويض الفعل الإنساني وتصويب اتجاه وجعله متسقاً مع الضرورة الحياتية حتى لايخرج النص بختم الماضي بل بديناميكية الحاضر المنفعل..
فالرومانسية وخاصة رومانسية لطفي امان هي إعادة تأهيل لفظي للمفردة اللغوية وتطويعها وإخراجها من تلك الحديّة التي اكتسبتها من بعض المدارس الأدبية الاخرى وخاصة الكلاسيكية فهو لايلجأ إلى تجريفِ بنيةِ اللغة كما فعل بعض المقلّدين في المدرسة الرومانسية بل يعيد ملامحَ الصورة الشعرية على نحوٍ يحفظ كيان اللغة ووحدتها العضوية والموضوعية ليعكسَ فيها الأنا الجمعي..
إذن رحلة الشاعر الفذ الأستاذ لطفي جعفر أمان رحلة مسكونة بالألم والوجع والفرح والحزن والألق واللذة والشوق واللقاء والفراق فهو حالة إبداعية متميزة إذ جعلَ النصَّ الشعري معادلاً موضوعياّ وصورةً من شخصيته العصامية وبذالك حقّقَ إنجازاً فعلياً للنص وقدّمة بصورة يليق بمقامه الرفيع.