آداب وفنون

لن يذكرني التاريخ

قصة: عمر محمد العمودي

ركضتُ صباحًا كما اعتدت، ولكن هذه المرّة لم أكن وحدي..
كُنّا معًا، ورفاقي يتسابقون، يظنّون أنّهم يمرحون
فيما كنتُ وحدي بأجنحتي التي ارتوت بدم “ميدوسا”، أظنّ أنني أسبق الشمس
كانت خطواتنا تلك مرعبة بما يكفي، لكي تشيّد الصين سورًا عظيمًا يصدّها..

كان الركض طويلًا وشاقًّا، والهتاف أبعد ممّا تمنّيت..
وأقرب إلى مأتم منه إلى نزهة يتوهّمها رفاقي..
على ظهري حملتُ إلهًا، “أودين” الذي طوّعت معه العوالم، أعلاها وأسفلها
حملتُ سهامًا لتاريخ لن أُذكر فيه، وبابًا لمجد لن أدخله
حملتُ رايات لم أخترها، وذاكرة لا تحمل اسمي..
حملتُ كل شيء في هذه الحياة عدا نفسي

لم أرفع السيف، ولم أسقط الأعناق..
تلك لم تكن رغبتي ولا دعوتي
لكنهم في طروادة تجاهلوا جنون “أخيل”
وأنكروا دهاء “أوديسيوس”
وأبوا أن يعترفوا بسذاجتهم، فألصقوا بي الهزيمة..
وحين نطق التاريخ باسمي مرة، لم أكن سوى دمية من خشب،
مجوّفة، عمياء، بلا صوت..
كنتُ وسيلة وحسب.

لم تكن لي غاية، ولم أكن طريقًا، كنت وسيلة تركض..
وركضت إلى أن رأيت رؤوسًا تتطاير، وأرواحًا تتناثر، ودماء تفيض
ركضت حتى تعثّرت بضربة، تمرّغت قليلًا، ونهضتُ كثير الألم، وكثير الاحتمال؛
فأنا لم أُخلق للسقوط.

كنتُ صخرة جلمودًا، لكنها تتدحرج وديعة نحو إرادة صاحبها..
وكانت أذناي تصغيان لابنة مالك، لكنها لم تسألني
وكان دمعي أصدق من كل عبرة، غير أنه دمع الباحث عن الرؤية، لا دمع الخائف الجبان.
فلا تُعرض بوجهك يا “عنترة”، لو تكلّمت لما سرّك ما تسمعه
أنا لم أكن سيفك، كنت لهبك.. ولم أكن أشكو
وهل يشكو البطل؟
وهل البطولة سوى تواطؤ بين لحمي ولحمك؟
لو لم أحملك لكنت ظلًّا هائمًا على الرمال يا ابن زبيبة

عاد الربّ على ظهري
وبمرور الوقت لم أعد أبصر إلا الغبار والنجوم
والسماء تقترب في مشهد مريع
لا خيار لي سوى أن أعيشه.

ألهذا أشبعوني أيامًا؟
ألهذا الجحيم هيّأوني للركض؟
كان ماء الأمس أصفى وأعذب..
أنا الآن أعطش، فأين ماء الأمس؟
إنّ ماء اليوم أحمر

تهادت العاصفة، تبدّد الغبار، وبقي الصدى..
عدتُ أكثر ازدحامًا في نفسي،
أقل خيالًا، وأكثر صدقًا
وعلى ظهري أحمل نصرًا صار أخفّ بعد زوال القلق
أحملُ أسماء وعيونًا شاخصة، مرويات وألسنة وغنائم..
أحمل واقعة لن تُنسى..
وإلى اللاشيء الأزلي كنت أحملني

عادوا بي فرحين، وعدتُ بهم متعبًا
احتفلوا، ملأوا الكؤوس، نحروا الرؤوس، أحدثوا ضجيجًا سمعته العوالم
أما أنا، فكنتُ منسيًّا وحيدًا،
ودمي يسيل
كنتُ أتهالك بعد المائة ميل
وحيدًا لا يفهمني سوى “جنكيز خان”

ذهبتُ حصانًا لا يحمل فكرة
وعدتُ حصانًا لا يرغب إلا في فكّ لجامه
حصان نكرة
يئن وينزف
حصان منسيّ وجريح
حصان لن يذكره التاريخ

زر الذهاب إلى الأعلى