رحلة عبر الظلام.. لغزٌ تحت الأرض عمره 10 آلاف عام

كريترنيوز /متابعات /السيد محمود المتولي
تثير شبكة كهوف سان مارسيل في جنوب فرنسا حيرة العلماء، حيث كشفت عن أدلة مذهلة تعيد كتابة تاريخ الاستكشاف البشري،. ففي أعماق الكهف المظلمة، التي يصعب الوصول إليها حتى بالمعدات الحديثة، اكتشف الباحثون صواعد كلسية مكسورة ومُرتبة بعناية، يعود تاريخها إلى 10 آلاف عام.
هذا الاكتشاف يطرح تساؤلات جوهرية حول قدرات البشر الأوائل على التنقل في الظلام الدامس دون تقنيات حديثة، ويُشكك في الافتراضات السائدة بأن استخدام الكهوف كان يقتصر على المداخل فقط، فما الذي دفع هؤلاء البشر إلى خوض غمار هذه الرحلات الخطرة؟ وما المغزى وراء هذه التكوينات المكسورة؟ يبقى اللغز قائماً، ويُظهر لنا أن تاريخ أسلافنا يحمل فصولاً لم تُكتشف بعد.
رحلة عبر الظلام منذ آلاف السنين
وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة “المنهج والنظرية الأثرية”، الواقعة أسفل تلال الحجر الجيري في منطقة أرديش، فإن نظام كهوف سان مارسيل معروف منذ زمن طويل للمستكشفين المعاصرين، لكن النتائج الجديدة، بقيادة عالم الجيومورفولوجيا جان جاك ديلانوي وفريقه، تشير إلى تاريخ أقدم بكثير – وأكثر غموضاً – للوجود البشري في أعماق هذه الكهوف.
داخل الكهف، على بُعد ميل تقريباً من المدخل، اكتشف الباحثون صواعد مكسورة – وهي تكوينات كالسيتية تستغرق قروناً لتتشكل، لم تكن هذه الشظايا نتيجة تآكل طبيعي، بل يبدو أنها كُسرت ورُتبت عمداً، مما يشير إلى وجود بشري مقصود، باستخدام تأريخ اليورانيوم والثوريوم ، حدد العلماء أن أقدم طرف مكسور يعود تاريخه إلى 10,000 عام.
تعتبر فكرة أن البشر في ذلك الوقت كانوا قادرين على الدخول في أعماق الكهف والتنقل فيه والتلاعب به تجبر العلماء على إعادة التفكير في القدرات التقنية والرمزية لأسلافنا ما قبل التاريخ.
التحديات صعبة
التضاريس داخل كهف سان مارسيل صعبة جداً، فمع ممراتها الزلقة، وظلمتها شبه الدامسة، يحتاج حتى المستكشفون المجهزون تجهيزاً جيداً اليوم إلى إضاءة قوية، ومعدات أمان عالية التقنية، ومعدات تسلق متطورة للتنقل فيها. ومع ذلك، قبل آلاف السنين، اجتاز الناس هذه المخاطر بطريقة ما – دون حبال أو خوذات أو إضاءة حديثة.
كما أوضح ديلانوي في مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم ، “يثير هذا تساؤلاً حول معرفة الكهوف في تلك الفترة ما قبل التاريخ، وقدرتهم على استكشاف الكهوف وعبورها، وإتقانهم للإضاءة”. وذلك نظراً لتعقيد البيئة وخطورتها، فإن إنجازات زوار الكهوف الأوائل هذه لا تقل عن كونها استثنائية.
الكهوف لم تكن كما كنا نعتقد
لأكثر من قرن، رفض الباحثون فكرة وجود تكوينات داخل الكهف مكسورة، ظنّوا أنها بقايا سياح من القرن التاسع عشر، لكن هذا الافتراض انقلب الآن. ووفقًا للدراسة الجديدة، فإن الأدلة على النشاط البشري في عصور ما قبل التاريخ في أعماق سان مارسيل أصبحت قاطعة، مما يُغيّر فهمنا لكيفية استخدام المجتمعات القديمة للكهوف بشكل جذري .
تُشكك هذه النتائج في افتراضٍ سائدٍ في علم الآثار، وهو أن استخدام الكهوف في عصور ما قبل التاريخ كان يقتصر في الغالب على مناطق الدخول، حيث كان الضوء الطبيعي لا يزال يصل. وتدعو الدراسة الجديدة إلى منظورٍ جديدٍ للمناظر الطبيعية العميقة تحت الأرض، كمساحات رمزية أو طقسية في الثقافات المبكرة.
لماذا دخل البشر القدماء إلى هذه المساحات الجوفية العميقة أصلًا؟ لا تزال هذه الأسئلة تُؤرق الباحثين.
قال جان جاك ديلانوي: “هذه سؤال لن نجد له إجابة. مثلاً، لماذا ذهب البشر للرسم في الكهوف وفي أعمق المناطق؟ لم نعد قادرين على الوصول إلى أفكارهم”. في حين أن العديد من الألغاز لا تزال مدفونة في أعماق سان مارسيل، فإن هذا الاكتشاف يُلقي الضوء على فصل منسي في تاريخ الإبداع البشري.