آداب وفنون

ما هو السر الذي أبكى الملايين؟

كريترنيوز /رشا عبد المنعم

“ربما تجمعنا أقدرانا ذات يوم.. بعدما عز اللقاء” هكذا تغنت أم كلثوم برائعة الشاعر إبراهيم ناجي مطلع الأربعينيات (حوالي عام 1941)، هذه الشاعرية الآسرة، التي تغوص في قسوة الأقدار والحنين إلى فرصة لقاء لم تتحقق، هي خطنا الدرامي لعوالم الفيلم الملحمي “84 طريق تشارينغ كروس” (1987)، الذي تبدأ أحداثه بعد ذلك بسنوات قليلة، تحديدًا في عام 1949.
هذا الفيلم، الصادر عام 1987، ليس مجرد عمل سينمائي، بل هو نشيد خالد لأدب المراسلات، ووثيقة تُمجّد الشغف الحقيقي الذي يربط الروح بالروح عبر جسر هش من البريد، هذا التزامن يُظهر أن الشعور الإنساني تجاه اللقاء البعيد كان قاسياً على جانبي العالم. فهل يمكن لعمق الصداقة الإنسانية أن يتوطد ويترسخ بنوادر الأدب الإنجليزي، رغم أن اللقاء بين طرفيها يظل مُعزًّا ومستحيلاً..
نستكشف كيف نجحت قصة كتبها الحبر والورق في هزيمة قسوة الزمن ومرارة الحرب، لتقدم لنا درساً حقيقياً في قيمة التواصل المتبصّر والتأملي، وهو ما نفتقده بشدة في عصر الإشعارات السريعة.
أصل الحكاية
تنبع روح هذا العمل من جذور واقعية صادقة، مجسدة في رسائل الكاتبة الأمريكية هيلين هانف (آن بانكروفت) المفعمة بالصخب والفكاهة، إلى متجر “ماركس وشركاه” للكتب القديمة في لندن، تحت إدارة فرانك دويل (أنتوني هوبكنز) الرصين
بدأت القصة عام 1949، في لحظة تاريخية مثقلة بندوب ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت بريطانيا تعاني من نقص حاد في المواد الغذائية الأساسية.
هنا يكمن الجوهر؛ فـ”هيلين”، العاشقة للنسخ الإنجليزية النادرة، لم تكتفِ بطلب الكتب، بل بدأت بإرسال طرود غذائية سرية مليئة باللحم والبيض إلى فرانك وزملائه، ليتحول تبادل الكتب مقابل الطعام إلى تبادل للثقافة مقابل الدعم الإنساني.
لقد كان التحدي السينمائي للمخرج ديفيد جونز هو تجسيد عقدين من المراسلات دون لقاء واحد، فجاء الحل في المونتاج الرسائلي الذي يفصل البطلين جغرافياً ولكنه يوصلهما عاطفياً، لنرى هيلين الصاخبة الساخرة في نيويورك، ونرى فرانك الهادئ المتحفظ في لندن، ويصبح البريد هو الجسر الوحيد بينهما، ليثبت الفيلم أن أعمق أشكال الحميمية قد تنشأ وتزدهر عبر الكلمات المكتوبة وحدها.
يستند هذا الفيلم إلى قصة حقيقية، وهو في الأصل كتاب يحمل اسم “84 طريق تشارينغ كروس” نشرته هيلين هانف عام 1970، وهو عبارة عن مجموعة من رسائلها الحقيقية والردود التي تلقتها من موظفي متجر الكتب.
عاشت هيلين هانف (1916–1997) حياة بسيطة ككاتبة سيناريوهات في استوديو بمدينة نيويورك، بينما كان فرانك دويل متزوجًا ويعمل بائع كتب هادئ في لندن.
استمرت مراسلاتهما على مدى عقدين من الزمان. لسوء الحظ، توفي فرانك فجأة في ديسمبر 1968 نتيجة لمضاعفات صحية، قبل أن تتمكن هيلين من زيارته.
أُغلق متجر الكتب بعد فترة وجيزة من وفاته. قامت هيلين بالفعل بزيارة المتجر الفارغ عام 1971، وكانت تلك اللحظة المؤثرة هي خاتمة الفيلم والكتاب. تكريماً لهيلين، سُمّي المبنى الذي كانت تعيش فيه في نيويورك باسم “منزل تشارينغ كروس”.
فن المونتاج
يُصنف الفيلم كفيلم رسائلي بامتياز، حيث اعتمد المخرج على الصدام الجميل بين أداء آن بانكروفت الحيوي وشخصيتها القوية التي تمثل “صخب نيويورك”، وأداء أنتوني هوبكنز المتقن في تجسيد الرجل الإنجليزي المتحفظ، وقد نالت بانكروفت ترشيحاً لجائزة البافتا (الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون) عن دورها، فيما فاز الفيلم بجائزة أفضل سيناريو مُعد.
القصة تحمل قدراً من الحزن، حيث تجمع هيلين المال مراراً لزيارة لندن ومقابلة فرانك، لكن خططها تتأجل دائماً بسبب عقبات الحياة. يصل الحزن ذروته الصامتة عندما تتمكن هيلين أخيراً من السفر إلى لندن، لتجد المتجر مغلقاً ورفيق روحها فرانك قد رحل.
عبارة النهاية التي ألقتها في المتجر الفارغ: “ها أنا ذا يا فرانكي، لقد وصلت أخيراً”، هي قصيدة مأساوية عن الفرص التي يسرقها منا الزمن، وتلخص ببراعة عمق العلاقة وحزن النهاية.
أدب الرسائل
يُعد “84 طريق تشارينغ كروس” نموذجاً متوهجاً لـ أدب المراسلات الذي يكتسب سحره من العزلة والانتظار، وهذا الجنس الأدبي ليس حكراً على الغرب، بل هو جزء أصيل ومُقدر في التراث الأدبي العربي.
إن رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران التي استمرت لنحو عقدين بين القاهرة ونيويورك دون لقاء، تُعد النموذج الأسمى للعشق الروحي غير المكتمل في أدبنا الحديث. كما أن المراسلات بين طه حسين وتوفيق الحكيم شكلت أرشيفاً نقدياً وفكرياً غنياً، وكانت رسائل الغزل في الشعر العربي القديم وسيلة التواصل الوحيدة لنقل المشاعر، مما يرفع الرسالة إلى مستوى القصيدة.
وقد استلهمت السينما العالمية هذا القالب الأدبي الخالد في أعمال متعددة، مثل فيلم جمعية غيرنزي الأدبية وفطيرة قشر البطاطا (2018) و فيلم لديك بريد (1998) للمخرجة نورا إيفرون، وكذلك فيلم المنزل عند البحيرة (2006)، حيث يعتمد العمل على تبادل الرسائل بين شخصين مفصولين بفارق زمني كامل.
نجاح الأرباح
تُظهر الإيرادات والأرباح التي حققتها الأفلام المستلهمة من أدب المراسلات تباينًا واضحًا بين النجاح النقدي والتجاري. ففيلم “84 طريق تشارينغ كروس” (1987)، رغم فوزه بجائزة البافتا لأفضل سيناريو مُعد وترشيح بطلته آن بانكروفت لجائزة أفضل ممثلة، كانت إيراداته متواضعة تجاريًا، حيث بلغت حوالي 1.1 مليون دولار فقط في شباك التذاكر الأمريكي، ليُصنف كنجاح فني طويل الأمد.
على النقيض، حققت النسخ الحديثة التي عانقت الرومانسية الجماهيرية نجاحًا نقديًا وماليًا ضخمًا؛ حيث جنى فيلم “لديك بريد” (1998) إيرادات عالمية تجاوزت 250 مليون دولار، بينما حصد فيلم “المنزل عند البحيرة” (2006) حوالي 114.9 مليون دولار.
أما فيلم “مجتمع غيرنزي الأدبي” (2018)، فقد حقق 30.7 مليون دولار في شباك التذاكر، لكن قيمته تضاعفت بانتشاره الواسع على منصة نتفليكس. تُظهر هذه الأرقام أن عمق العلاقة الإنسانية المكتوبة غالبًا ما يُترجم إلى نجاح نقدي، لكن الجمع بينها وبين القصص الرومانسية المعاصرة هو ما يضمن النجاح التجاري الباهر.
قيمة التأمل
في خضم تدفق المعلومات وضغط الاستجابة الفورية الذي يفرضه العصر الرقمي، تكمن عظمة “84 طريق تشارينغ كروس” في تذكيرنا بـ قيمة الانتظار والتأمل. إن رحلة رسالة هيلين عبر المحيط الأطلسي كانت تستغرق أسابيع، وهذا البطء الزمني أتاح لكل من فرانك وزملائه التفكير العميق في الكلمات الواردة، وصياغة الردود بدقة وحميمية مدروسة.
هذه العلاقة الممنوحة بالصبر تختلف جذريًا عن الرسائل النصية الفورية أو رسائل البريد الإلكتروني العابرة، التي تفتقر غالباً إلى الروح المتأنية التي يحملها الحبر على الورق. تُمثل هذه القصة نداءً خفياً للعودة إلى جوهر التواصل الإنساني، الذي يقدّر جودة الكلمة المكتوبة على حساب سرعة إرسالها.
إنها تذكرة بأن أعمق العلاقات ليست بالضرورة أسرعها أو أكثرها حضورًا، بل هي تلك التي بُنيت بعناية وتركت بصمتها الخالدة.

زر الذهاب إلى الأعلى