الحنجرة التي وشمت الذاكرة.. قحطان الكاش

بقلم / مـاهــر الــعــبــادي ابــو رحـيـل
يا ابن النغم العابق بالشجن، يا من تغني فيزهر الصمت، وتتنفس الحروف عطراً من حنجرتك الذهبية.
صوتك ليس غناءً فحسب، بل نبض أرض، وذاكرة وطن، وعبير روح لا تشبه سواها.
حين تصدح يا قحطان، تتهادى النغمة على أجنحة الطير، وتستفيق القلوب من سباتها كأنها كانت تنتظر ميلاد الفجر من بين حروفك.
كأن كلّ نفس من أنفاسك وعد بالمحبة، وكل لحن منك صلاةٌ للجمال.
نعم في سماء الفن، حيث الأصوات تتلألأ كنجوم الليل، وتهتف القلوب قبل الحناجر، ولد صوت لا يشبه أحداً… بلبل حالمين، قحطان الكاش، ذاك الذي غنى فأنصتت الجبال، وتغنى فاهتزت السهول، كأن الأرض نفسها تُصغي لرجع صوته وهي تتنفس أنغامه.
ليس صوت قحطان مجرد نغمة تُسمع، بل هو وجدان يُعاش. فيه دفء المدن والقرى حين يهب المساء، وفيه حنين البحر وهو يودع المراكب العائدة.
صوته مزيج من صدق التراب وعبق الاصاله الجنوبيه، ومن شموخ النخل وعذوبة المطر. تسمعه فتشعر أنه لا يغني بالكلمات، بل يغني بروحه، كأن بين حروفه نهر من الضوء يجري نحو القلب دون إذن.
حين يرفع صوته، ترتدي اللغة أجمل ثيابها، وتخجل الموسيقى من فصاحته. كأن القصيدة حين تمر بحنجرته تصبح أنثى عاشقة، تهمس باسمه، وتطوف حول مقامه وما بين علوّ القرار وانسياب الجواب، يسكن سر السحر الغنائي الجنوبي الأصيل، ذاك الذي لا تبلغه الآلات، بل تسكنه الأرواح.
قحطان الكاش… ليس فناناً فحسب، بل هو ذاكرة تمشي على وتر، يحمل في صوته نكهة الأرض والناس، ورائحة الزمان الجميل الذي ما زال يطل من نافذة الطرب الأصيل.
في كل نغمة منه حكاية، وفي كل مد تنهيدة وطن تسمعه فتغدو الكلمات قناديل، والأنغام جسوراً تعبر بك من الحنين إلى الفخر، ومن الشجن إلى النور.
إنه البلبل الذي لا يكتفي بالغناء، بل يزرع الفرح في السمع كما تزرع الورود في الربيع كلما صدح، أيقظ فينا ذاك الحلم القديم بأن الفن رسالة، وأن الصوت الصادق لا يشيخ أبداً في أدائه اتزان الحكمة، وفي عاطفته جنون العاشق، وفي حضوره وقار الفنان الأصيل الذي يعرف أن الفن أمانة، وأن كل نغمة تصعد من حنجرته هي قسمٌ بالحب والجمال.
وما أجمل أن يكون الفن على يديه وطناً صغيراً يجتمع فيه الحنوبيين على نبض واحد، يعيد لهم ذكرى العزف الأول حين كان الإنسان يغني لأن الحياة تستحق. قحطان الكاش… أيها البلبل الذي ما خذل الفجر، ولا غاب عن السمع، ستبقى نغمتك خالدة في الذاكرة، تملأ الأرواح طهراً، والقلوب دهشة، وتؤكد أن الفن العظيم لا يُولد من الصدفة، بل من موهبة تُسقى بالصدق والعناء والحب.