ْ من أرسطو إلى فان غوخ.. ما حقيقة “الجنون الخلّاق”؟

كريترنيوز /رضا أبوالعينين
لطالما راودت البشرية فكرة أن الإبداع عبء ثقيل يحمله العباقرة وحدهم، وأن الفنان العظيم لا بد أن يخوض معارك داخلية مريرة، من فان غوخ الذي قطع أذنه، إلى فرجينيا وولف التي أنهت حياتها مأساويا، لطالما ارتبطت الصورة الذهنية للمبدع بالاضطراب النفسي. لكن هل هذه الصورة قائمة على حقائق علمية؟ دراسة نفسية قادها الدكتور غريغوري ج. فيست تكشف الكثير عن هذه العلاقة المعقدة بين الإبداع والصحة النفسية.
الدراسة، اعتمدت على تحليل سير ذاتية لعدد كبير من الشخصيات المعروفة، صنفها الباحثون إلى ثلاث فئات: فنية، علمية، ورياضية، وهدفت إلى التحقق مما إذا كان هناك ارتباط فعلي بين القدرات الإبداعية والإصابة باضطرابات نفسية، أم أن هذه العلاقة مجرد انطباع ثقافي متوارث، وفقا لموقع StarsInsider.
وجاءت النتائج مثيرة للدهشة، حوالي 86% من الفنانين الذين شملتهم العينة أظهرت بياناتهم مؤشرات على وجود اضطرابات نفسية، مقابل 61% من العلماء، و62% من الرياضيين. هذه الأرقام تعكس نسبة مرتفعة بشكل عام، لكنها تطرح تساؤلا أعمق: لماذا يعاني الأشخاص المشهورون – وليس فقط المبدعين – من هذه المشكلات؟
يشير الدكتور فيست إلى أن المشاهير بشكل عام، خاصة من يُكتب عنهم وتُوثق حياتهم، هم أكثر عرضة للتحليل النفسي. وهذا يفسر ارتفاع النسب في جميع الفئات، حتى غير الإبداعية منها مثل الرياضيين، الذين ارتبطت مشكلاتهم غالبا بإدمان المواد المخدرة. أما العلماء، فقد تبين أنهم أكثر عرضة لإيذاء أنفسهم من الفنانين، ربما نتيجة لطبيعة العمل التي تفتقر إلى منافذ تعبيرية أو تنفيس عاطفي.
الفن، في المقابل، قد يكون وسيلة علاجية، وليس سببا في الاضطراب. يرى الباحثون أن كثيرا من الأشخاص الذين يعانون نفسيا يتجهون للفن كوسيلة لفهم الذات وتخفيف الألم، وليس لأن الفن يسبب المرض. هذا الطرح يتحدى الفكرة الشائعة بأن الجنون هو محرك الإبداع، ويعيد صياغة العلاقة في اتجاه أكثر تعقيدا وإنسانية.
تاريخيا، تعود جذور هذه الفكرة إلى قول منسوب لأرسطو: “لا يوجد عبقري عظيم دون مسحة من الجنون”. لكن كلمة “جنون” في السياق القديم لم تكن تعني بالضرورة اضطرابا نفسيا، بل خروجا عن المألوف أو تميزا خارقا، إلا أن هذه المقولة تحولت لاحقا إلى حجر أساس في تكريس صورة الفنان المعذّب.
الدراسة تخلص إلى أن الإبداع لا يولّد المرض النفسي، ولا العكس، بل إن هناك تداخلا محتملا بين عوامل نفسية واجتماعية ومهنية تدفع بعض الأفراد إلى مجالات معينة. ولا يعني ذلك أن كل فنان مكتئب أو كل عبقري مصاب، بل إن بعض من يعانون قد يجدون في الإبداع خلاصا.
تنسف هذه النتائج واحدة من أكثر الصور النمطية رسوخا في الثقافة الإنسانية، وتفتح الباب لنقاش أعمق حول دعم الصحة النفسية للمبدعين وغيرهم، بعيدا عن تعريف المعاناة.