جواهر الخلق وسر الاختلاف.
كريترنيوز/متابعات/شقائق/تقرير/فاطمة امزيل
الإنسان منا عالم وتاريخ، خلقه مختلف كاختلاف بصماته، وتكوينه مختلف باختلاف الخلقة التي نسل منها، يختلف قلبا وقالبا، روحا وجسدا، حتى وإن بدا لنا أن هناك من البشر من يتشابهون في السنحة والجسد والتفكير، إلا أن هناك اختلاف قد ندركه من أول وهلة وربما نتأخر في إدراكه. فحتى التوأم الحقيقي مع أنهم يخلقون من بويضة واحدة إلا أن هناك سر إلهي في الخلق يجعل النطفة تنقسم على اختلاف والعلقة مختلفة التكوين، فينشأ خلق توأم مختلف في القدَر وفي الحياة وفي النّظر، ويزداد الاختلاف بالتطبع ونسبة التكيف وسط البيئة والمجتمع.
قال تعالى : ” وَلَو شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالونَ مُختَلِفينَ ؛ إِلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهم ” سورة هود الآية 117-118
إن الاختلاف بيننا ليتّخذ صوراً مختلفة، فالناس يختلفون عن بعضهم البعض في الشكل الخارجي وفي التكوين الداخلي من حيث الجسد، وكذا يختلفون من حيث النفس التي تتأثر وتؤثر في بعضها البعض باعتبار النفس اتحاد الروح والجسد وباعتبار ما ينتج عنها من مبادئ وأخلاق ومكنونات وصفات خاصة تميز كل واحد عن الآخر، على أن اختلاف الناس في ألوانهم وصفاتهم الخَلقية والخُلقية يرجع إلى أساس الخلق في آدم عليه السلام الذي خلقه الله سبحانه من تراب، وكان هذا التراب من جميع أنواع تربة الأرض باختلاف قوامها وخصائصها وصفاتها وألوانها، ويرجع ذلك إلى تقدير الله تعالى. حيث أنّ التربة التي خُلق منها إنسان تختلف عن التي خُلق منها إنسان آخر، فمن خُلق من طينة السهول طبعه يختلف عمن خُلق من طينة الجبال، والذي خُلق من طينة بيضاء لونه يختلف عمن خُلق من طينة سوداء أو حمراء أو صفراء، وكذلك بالنسبة لاختلاف درجة حرارة هذه التربة وقدرتها على تحمل مناخ معين والتكيف معه، وعلى هذا الأساس نشأَ الاختلاف بين الناس في تكوينهم وأماكن وطبيعة عيشهم، واختلاف الأعراق والأجناس.
عن أبي موسى الأشعرِي رضي الله عنه أنَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال : إن الله تعالى خَلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأسود والأبيض والأصفر وبين ذلك والسهل والحَزن والخبيث والطيب ” رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري
من هنا كان الناس مختلفي الطّباع والميولات والقدرات، وكلّ جيل يختلف عن الذي قبله شكلاً وتفكيراً وحلما وأملا وعلما وعملا ولغة وفهما للحياة والكون. ولحكمة عظيمة تتجلى في أنّ قدرة الله سبحانه وتعالى مطلقة وأنه الخالق المبدع في خلقه.
وقد خلقنا مختلفين لنشعر بضرورة التكامل بيننا، ونعمّر الأرض معاً ونتعاون على تحقيق التعايش والحب والسلام الروحي والجسدي والأممي. فالاختلاف رحمة من الله سبحانه وتعالى ليتحقّق التكامل ما بين البشر، فلو شاء لخلق الناس كلهم طبعاً واحداً ونسخة واحدة وأمة واحدة وهو القادر على ذلك إن أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.
قال تعالى في محكم كتابه : يا أَيهَا الناس إِنَّا خلقناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأنْثى وجعلْناكُمْ شُعُوبا وقبائِلَ لِتَعارفُوا إِنّ أَكْرمكمْ عند اللّهِ أَتقاكمْ إِن اللّه عليم خبير.
فلو شاء لجعلنا أمة واحدة وألف بين قلوبنا ويسر لنا التوافق والتوفيق في كل أمورنا الحياتية. فلا يكون حينئذ صراعات ولا حروب ولا اختلاف الديانات ولا السياسات ولا شيء يدل على الاختلاف المادي ولا المعنوي ولا الروحي ولا الجسدي، فنكون نسخا متحركة بلا إرادة ولا شعور. لكن الله سبحانه أراد أن نشعر بطعم الحياة ونستعمل الفكر والعاطفة ونعمل ونجتهد ونصارع ونتصارع لبلوغ الأسمى وهو العبادة والصفاء،
وقد قرّر جعل الاختلاف بين البشر وعدّ ذلك من آياته قال تعالى : ومن آياته خلق السّموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ، إنّ في ذلك آيات للعالمين، ومن إعجازه كذلك اختلاف بنان البشر، فلا تجد لأحد من الناس بصمة أصبع كبصمة غيره . قال تعالى في سورة القيامة : بلى قادرين على أن نسوّي بنانه.
وخلق الله أيضا الاختلاف بين البشر في الرّزق والكسب، فكان الغنيّ صاحب المال الوفير. والفقير قليل ماله لا يأتيه من الرزق إلا ما يسدّ رمقه ويحقق حاجته أو بعض حاجته اليومية. قال تعالى : والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق.
ونجد الاختلاف بين الناس في إيمانهم وعلمهم وثقافتهم، قال تعالى : يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم درجات.
فسبب الاختلاف بين البشر يكمن في أنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يمتحننا ويختبرنا، فالغني يختبر في ماله وكيفية إنفاقه وبذله، والفقير يختبر في صبره وتحمله ودرجة شكره، والعالم مكلف بتعليم الناس وتوعيتهم وعدم كتمان علمه والبخل به. والجاهل وجب عليه طلب العلم والاجتهاد في الفهم وتطوير ملكاته التعلّمية والإدراكية.
كما أنّ اختلافنا في قدراتنا يمكّننا من تسخير بعضنا والاجتهاد في العمل فرادى وجماعات لتحقيق ما يعود بالنّفع على الجميع. فالعامل يسخّر قدراته البدنية، والتاجر يسخّر قدراته المالية والحاكم يسخر قدراته التنظيمية لتحقيق السلم والسلام والأمن والأمان والعدل والمساواة والتكافؤ في الحقوق والواجبات، ويساهم الكل في منظومة متكاملة تسيّر عجلة الحياة وتيسّر لنا العيش الكريم الذي أراده الله لنا وأرادنا أن نبلغه لنستطيع بلوغ الكمال بالتكامل وتحقيق العبادة التي خلق كل ذلك للفوز بها.
أما الاختلاف في خلقة البشر من حيث التفاوت في القبح والجمال. وتمام الخلقة أو نقصها، والفقر والغنى، والصحة والسلامة والمرض والإصابة، إنّما هو لحكمة ربانية خاصة، فالأشياء تُعرف بأضدادها. فلا مجال لظهور الجمال في غياب القبح، ولا الكمال في غياب النقص، ولا الطول في غياب القصر، ثم أن التفاوت يكون ضروريا لظهور وتجلّي القدرة الإلهية المطلقة، أما بعض موارد التفاوت التي نراها وندركها، فهي ضرورية لما تظهره من صفتي اللطف والقهر الإلهي، بالإضافة إلى إنّ صلاح بعض البشر يكمن في القبح، أو العمى، أو الابتلاء بالفقر والمرض وغير ذلك. فالصلاح يكمن فعلا في ما اختاره الله تعالى لنا وما كتبه وقدّره وليس لنا إلا الرضى في المسائل التوقيفية أما ما هو توفيقي فبالإمكان أن يتدخل الإنسان قدر علمه واستطاعته ليغيره دون أن يخل بالقانون الإلهي.
ومن حكمة الاختلافات بين الناس أن يكونوا في معرض الاختبار الإلهي ليتميّز بين طريق السعادة وطريق الشقاء، قال تعالى : لنبلوكم أيكم أحسن عملا.
فأصحاب الابتلاء يُمتحنون بالصبر والامتثال لما قضاه الله، فينال الصابر جزاء الصابرين وينال الجاحد جزاء الجاحدين. أما
الأصحّاء المتعافون فيُمتحنون بالشكر وأداء ما عليهم من التكاليف الإلهية إزاء إخوانهم المبتلين. قال تعالى : وَجَعَلنَا بَعضَكُم لِبَعضٍ فِتنَةً أَتَصبِرُونَ ” سورة الفرقان الآية 20.
والله هو الجابر، والجابر من أسمائه الحسنى، لهذا يجبر الخواطر ويعوض عباده عما بهم من نقص بما يلهيهم عن ذلك النقص، ويكون التعويض بمقدار يساوي رضاهم بالبلاء. فالله سبحانه هو الملك وله الحكم والتصرف في ملكه.
يقول ابن القيم في كتابه “شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل” ص: 219 : والملك إذا اقتصر تصرُّفه على مقدور واحد من مقدوراته ؛ فإما أن يكون عاجزًا عن غيره، فيتركه عجزًا، أو جاهلاً بما في تصرُّفه في غيره من المصلحة فيتركه جهلاً، وأما أقدرُ القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرُّفه في مملكته لا يقف على مَقدور واحدٍ؛ لأنَّ ذلك نقص في ملكه، فالكمال كل الكمال في العطاء والمنْعِ، والخفض والرفع، والثواب والعقاب، والإكرام والإهانة، والإعزاز والإذلال، والتقديم والتأخير، والضر والنفع، وتخصيص هذا على هذا، وإيثار هذا على هذا، ولو فعل هذا كله بنوع واحد متماثل الأفراد، لكان ذلك منافيا لحكمته، وحكمته تأباه كل الإباء، فإنه لا يفرق بين متماثلين، ولا يُسَوِّى بين مختلفين، وقد عاب على من يفعل ذلك، وأنكر على مَن نسبه إليه. إلى أن قال في الصفحة 221 : إنه سبحانه يجب أن يُشكر، وَيُحِبُّ أن يُشْكَر عقلاً وشرعًا وفطرةً، فوُجوب شكرِه أظهر مِن وجوب كل واجب، وكيف لا يجب على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلائه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره والخضوع له والتحدُّث بنعمته والإقرار بها بجميع طرُق الوجوب، فالشكرُ أحبُّ شيء إليه وأعظم ثوابا، وأنه خلق الخلق، وأنزل الكُتُب، وشرّع الشرائع، وذلك يستلزم خلْق الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل، ومِن جملتها أنْ فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة، في خلقهم وأخلاقهم، وأديانهم وأرزاقهم، ومعايشهم وآجالهم، فإذا رأى المعافى المبتلى، والغني الفقير، والمؤمن الكافر ، عظُم شكره لله، وعرف قدْر نعمته عليه، وما خصه به وفضله به على غيره ؛ فازداد شكرا وخُضوعا واعترافا بالنعمة.
لقد جعل سبحانه الاختلاف بيننا فتنة واختبارا وهو القادر على كل شيء.
قال تعالى : (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ “). سورة الأنعام الآية 53.
وقال تعالى:(وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ) سورة الفرقان الآية 20.
فلولا هذا الابتلاء والامتحان لما ظهر فضل الصبر والرضا، والتوكل والجهاد، والعفة والشجاعة، والحلم والعفو والصفح، فالله سبحانه يُحب أن يكرم عباده بهذه الكمالات، ليثني بها عليهم هو وملائكته، ولينالوا باتصافهم بها منتهى الكرامة والسعادة، فكل مرارة في الحياة لابد لها من حلاوة تعقبها، ولا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة، فالمؤمن يحصل له الألم الشديد في الدنيا ثم ينقطع ليعقبه أعظم شعور باللذة، والكافر تحصل له اللذة والمتعة أولاً ثم يعقبه أعظم الألم، وهذا من العدل الإلهي.
ومن الاختلاف نميز جواهر الناس وندرك معادنهم ونعي مكاننا ومكانتنا بينهم، ولأن طبيعة خلق الإنسان أساسها الاختلاف، كان لابد أن يتجلى ذلك في حياته ليستمتع بما فيها من تنوع، ويدرك الحكمة الإلهية من هذا الاختلاف الذي يظهر في أدق الأمور والأشياء المادية والمعنوية التي ندركها والتي لا ندركها، فحتى في الآخرة هناك اختلاف، فهناك الجنة وهناك النار، والجنة مراتب ومقامات والتمتع فيها مختلف متنوع، والنار مراتب ومقامات والعذاب فيها مختلف ومتنوع.
وأسأل الله لي ولكم خير الدارين وحسن الخاتمة.