مقالات وآراء

مهمة الزٌبيدي الكبرى بين صراع الإرث السياسي وتحديات بناء الدولة

كتب: صائل حسن بن رباع

منذ بواكير الحراك الجنوبي، ومنذ أن أطلقت شرارته الأولى، كانت مسيرته مليئة بالاضطرابات والتقلبات. مرّ الحراك بتحولات شديدة، حتى إنطلقت المقاومة الجنوبية التي نشأت كرد فعل على انهيار الدولة وتمدّد الحوثيين في الجنوب، وصولاً إلى الدعم الكبير الذي حصلت عليه المقاومة من التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وأيضًا من الرئيس الشرعي آنذاك، عبدربه منصور هادي، الذي حول قوات وألوية المقاومة الجنوبية إلى قوات شرعية تتبع الدولة.

لكن، وكما هو الحال في كل قصة درامية، لم تدم الحال على ما كانت عليه. سرعان ما انقلبت الأمور إلى خلافات واضحة بين هادي ورموز المقاومة، الذين شكلوا، إثر قرار هادي بعزلهم من مناصبهم، ما عرف بالمجلس الانتقالي الجنوبي. وكان قرار هادي بعزلهم، في الحقيقة، نابعًا من خشية حقيقية من أن يقوم هؤلاء بتشكيل حامل سياسي جنوبي وهم في مناصبهم، ما قد يؤدي إلى تعزيز نفوذهم السياسي بشكل موازٍ للسلطة.

منذ البداية، كان هناك شعور عميق، وخوف مشروع، من إرث المناطقية والشللية والشمولية في السياسات الجنوبية التي سادت فترة حكم الحزب الاشتراكي في الدولة الجنوبية السابقة قبل الوحدة. كان هذا الإرث، بلا شك، إرثًا بغيضًا خلف صراعات مريرة قوضت أركان الدولة الجنوبية. ومنذ تلك الفترة، وحتى قيام المجلس الانتقالي الجنوبي، ظل الجنوبيون في حالة يقظة دائمة، حذرين من أن هذا الإرث قد يعيد نفسه.

ومع فترة الصراعات العسكرية التي خاضها المجلس الانتقالي والقوات الجنوبية، سواء ضد الحوثيين أو ضد قوات حكومة هادي وقوات الإخوان المسلمين أو حتى ضد الإرهاب بمختلف أشكاله، لم يكن لدى الجنوبيين وقت للتفكير في أهمية المناطقية في تشكيل قواتهم العسكرية. كانت المعركة في أوجها، ولم يكن هناك وقت للتفكير في الإنتماء المناطقي للقوات. ومع ذلك، استمر هذا الحال حتى توقيع اتفاق الرياض بين المجلس الانتقالي والحكومة الشرعية، واستمر الأمر تدريجيًا في مشاورات القوى اليمنية تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي، والتي أسفرت عن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي بشكله الحالي.

في تلك اللحظة، أدرك الجنوبيون، على الرغم من تصدعات الماضي، أهمية إعادة التفكير في طريقة عملهم السياسية. فبعد أن أصبح الانتقالي جزءًا من الشرعية اليمنية وممثلًا بها، كانت الفرصة سانحة للإصلاح. وفي خطوة لافتة، أعلن المجلس الانتقالي عن نيته في إطلاق حوار جنوبي جنوبي من أجل توحيد الصف الجنوبي وتطوير آليات العمل السياسي، وذلك ليثبت للعالم أن الجنوب يمثل طيفًا متنوعًا من القوى السياسية والاجتماعية. ولكن، وبالرغم من النوايا السليمة التي كان يحملها هذا الحوار الجنوبي، إلا أنه فشل في توحيد الصف الجنوبي من خلال “ضم” بعض الشخصيات المعارضة التي لها وجود حقيقي على الساحة الجنوبية. فكلما تم إسكات صوت، ظهر آخر يطالب بشراكة مؤسساتية. وهذا ما بدا أن الانتقالي غير مستعد له في المرحلة الحالية.

في خطوة استباقية، أعلن المجلس الانتقالي عن خطته لإعادة هيكلة القوات المسلحة الجنوبية. خطوة قد تبدو موجهة لإستباق أي مطالبات جنوبية لإعادة بناء القوات الجنوبية على أسس مؤسساتية بعيدة عن الطريقة البدائية التي بنيت عليها القوات خلال فترة الصراع بين عامي 2015 و2019، والتي اعتمدت بشكل رئيسي على أبناء المناطق التي شهدت صراعات وتضحيات كبيرة. حيث أصبح هناك خلل خطير في التركيبة المناطقية لتلك القوات، فقد أصبحت 90% من المناطق الجنوبية إما غير ممثلة أو ممثلة بشكل ضئيل.

وقد أسندت مهمة إعادة هيكلة القوات إلى أبو زرعة المحرمي، عضو مجلس القيادة الرئاسي وقائد قوات العمالقة الجنوبية الشهيرة بتوجهاتها السلفية وبأنها لم تُهزم في أي معركة خاضتها. ورغم أن المحرمي ينتمي إلى المناطق التي تتمتع بتمثيل قوي في القوات الجنوبية، إلا أن قواته، “العمالقة”، مشهود لها بتنوع مناطقي أفضل بقليل من القوات الأخرى. ومع ذلك، يظل السؤال مطروحًا: ماذا لو تم تكليف هذا الدور لفرج البحسني، عضو مجلس القيادة الرئاسي وهو قائد عسكري بارز كانت مساهمته واضحه في قيادته لمعركة تحرير حضرموت من الجماعات الإرهابية التي سيطرت على “المكلا” عاصمة المحافظة، وهو منتمي إلى المناطق الأقل تمثيلاً في تشكيل القوات الجنوبية، في رأيي، كان هذا الخيار قد يوفر فرصة أفضل لتحقيق وحدة الصف الجنوبي.

لكن الأمر لا يقتصر فقط على المناطقية العسكرية، بل يمتد أيضًا إلى تعيينات المجلس الانتقالي في دوائره السياسية والمدنية. وفي هذا الصدد، لا يبدو أن هذه التعيينات فرضتها ظروف الحرب أو المواجهة، بل فرضتها رؤية سلطوية ترى أن ما تفعله يمثل إرادة الجماهير. هذه الرؤية حاولت تمويه ما تفعله من خلال توزيع بعض المقاعد لشخصيات “غير فاعلة فكريا” تنتمي للمجتمعات الجنوبية الأقل تمثيلاً في المجلس الإنتقالي.

وأسوأ ما في المجلس الانتقالي هو الشمولية السلطوية التي تتسيد القرارات داخله، وتهميش دور الهيئات السياسية التي تدعم رئاسة الانتقالي مثل الجمعية الوطنية الجنوبية ومجلس العموم الجنوبي. حتى الأمانة العامة وهيئة الرئاسة تعمل في دائرة ضيقة، حيث لا يستطيع أي عضو فرض رؤى مخالفة خوفًا من الإقالة. أصبحت قيادة الرئيس عيدروس الزٌبيدي قوية لدرجة أنه أصبح “الموظِّف الأكبر” للجنوبيين، المتحكم في التعيينات المدنية والعسكرية والسياسية، وأي إشارة منه كافية لتحييد أحد السياسيين الجنوبيين الكبار.

في بلد يعاني من واحدة من أضعف اقتصادات العالم، ومع تعطيل المؤسسات الاقتصادية، والبطالة الطاغية، يصبح وجود قيادة متفردة، تجمع كل السلطات بيدها، أمرًا شديد الخطورة. فالسلطة المطلقة، كما يقول المثل، مفسدة مطلقة. الزبيدي برغم مبادئه الثورية، إلا أنه يتعامل مع الواقع بفكر سلطوي، ويختار المقربين منه بعناية شديدة، ما يعكس حرصا أمنيا نابعاً من فترة نضاله الطويلة وتعرضه للملاحقة من قبل معارضي فكرة إستقلال الجنوب.

وفي هذا السياق، فإن دوائر الانتقالي السياسية تحولت إلى جوقة من المصفقين، الذين يفعلون كل ما في وسعهم لإبعاد الآخرين عن الظهور، خوفًا من افتضاح ضعفهم أمام الرئيس، وحتى لا تقل حصتهم من “كعكة” المساعدات التي يقسمها الزبيدي.

ومع تزايد المعارضة للانتقالي بعد تحالفه مع الحكومة اليمنية، التي طالما روج أنها عدو الجنوب، فإن سياسات الانتقالي لم تقنع المواطن الجنوبي. فلا يزال المواطن يعاني من البطالة التي جاوزت 75%، ومتوسط دخل الفرد بحدود 50 دولار أمريكي شهريا ،بينما يتقاضى أعضاء مجلس القيادة الرئاسي رواتب بحدود 250 ألف دولار شهريًا.

إن الوضع في الجنوب اليوم يتطلب من الرئيس الزٌبيدي أن يتحمل مسؤولياته في تصحيح الأوضاع. فلا يزال الشارع الجنوبي، على الرغم من تآكل شعبية الانتقالي تدريجيا، يرى في الزٌبيدي مناضلًا صلبًا من أجل استعادة الدولة الجنوبية. من هذا المنطلق، تقع على عاتقه مسؤولية إعادة بناء المؤسساتية في المجلس الانتقالي، وتوزيع السلطة بين الدوائر السياسية، وتفعيل آليات صناعة القرار، وفتح الباب أمام المبادرات والتطوير، بالإضافة إلى مكافحة الفساد واستعادة الاقتصاد المتعثر.

لقد انتهت فترة “التطبيل” وحان وقت العمل. إذا لم يتخذ المجلس الانتقالي هذه الخطوات، فإن الخاسر الأكبر سيكون الجنوب وقيادته.

29 سبتمبر 2024

زر الذهاب إلى الأعلى