دولية

جغرافيا السلطة.. كيف ترسم الخرائط الانتخابية حدود الديمقراطية في أمريكا؟

كريترنيوز/متابعات /أحمد الشنقيطي

 

لم تعد إعادة ترسيم الدوائر الانتخابية في الولايات المتحدة شأناً تقنياً يقتصر على تحديث الخرائط بعد كل تعداد سكاني، بل تحولت في السنوات الأخيرة إلى حرب سياسية مفتوحة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. أبرز جبهات هذه الحرب تتجسد اليوم في ولايتين متناقضتين؛ تكساس الجمهورية وكاليفورنيا الديمقراطية، فبينما تسعى الأولى إلى إعادة رسم الخرائط الانتخابية لتكريس أغلبية جمهورية أطول أمداً، ترد الثانية بخطة هجومية لإنتاج مقاعد جديدة لصالح الديمقراطيين.

هندسة حزبية

بعد أن منحتها نتائج تعداد 2020 مقعدين إضافيين في مجلس النواب، انخرطت تكساس في إعادة ترسيمٍ مبكر للدوائر عام 2025. وبحسب موقع “تكساس تريبيون”، يسعى الجمهوريون إلى استغلال نمو الكتلة السكانية لنقل الثقل من المدن الكبرى ذات الأغلبية الديمقراطية إلى ضواحي ومناطق ريفية أكثر ميلاً للجمهوريين، وهو ما قد يترجم إلى خمسة مقاعد إضافية في الكونغرس.

لكن هذه الخطة واجهت انتقادات واسعة، فقد أظهرت “أسوشيتد برس” أن إعادة رسم الدائرة 35 في أوستن، مثلاً، يقلّص من فرص تمثيل اللاتينيين والأقليات، ما قد يفتح الباب أمام دعاوى قضائية استناداً إلى قانون حقوق التصويت الفيدرالي. وفي المشهد السياسي المباشر، أشارت “أكسيوس” إلى أن الخريطة الجديدة قد تدفع النائب الديمقراطي المخضرم لويد دوغِت إلى الانسحاب، بعدما وُضع في مواجهة زميله الأصغر غريغ كاسار داخل دائرة واحدة، وهو مثال عملي على قوة “الهندسة الحزبية” في تغيير المصائر السياسية.

خريطة مضادة

على الجانب الآخر من الساحل الغربي، اختارت كاليفورنيا نهجاً معاكساً تماماً. فبحسب موقع “كال ماترز”، طرح الحاكم غافين نيوسم مشروع خريطة استثنائية تخلق خمسة مقاعد جديدة للديمقراطيين، على أن تُقر عبر تشريع واستفتاء خاصين.

هذه الخطوة وُصفت في واشنطن بوست بأنها “رد مضاد” على هندسة الجمهوريين في تكساس، غير أن منتقدين حذروا من أن الولاية تُخاطر بنسف تقليدها العريق في إسناد رسم الخرائط إلى لجنة مستقلة منذ عام 2011. وهكذا، وجدت كاليفورنيا نفسها في جدل داخلي بين من يرى في الخريطة سبيلاً “لتحقيق العدالة الحزبية” ومن يحذّر من أن الديمقراطيين يسقطون في الفخ نفسه الذي طالما انتقدوه.

توازن وطني

تغطية “أسوشيتد برس” للموضوع خلصت إلى أن ما يجري في تكساس وكاليفورنيا قد يُربك التوازن النادر الذي أفرزته خرائط ما بعد 2020، حين اقتربت نسبة المقاعد النيابية من نسبة الأصوات الشعبية الوطنية.

اليوم، تُعيد “حرب الخرائط” إنتاج فجوة التمثيل، عبر أدوات التحزيم (حصر الناخبين المعارضين في دوائر قليلة) والتشتيت (توزيعهم بحيث يذوب ثقلهم).

وبحسب مركز “برينان للعدالة”، فإن الاتجاهات السكانية تنبئ بأن الجنوب الأميركي قد يكسب تسعة مقاعد إضافية بعد تعداد 2030، ما يرفع شهية الولايات مثل تكساس وفلوريدا لمزيد من “الهندسة السياسية”، ويزيد ضغوط الديمقراطيين في الغرب للحفاظ على حصتهم.

لا يقتصر أثر هذه الخرائط على الكونغرس فقط، بل يمتد إلى الكلية الانتخابية، فقد خسرَت كاليفورنيا مقعداً لأول مرة في تاريخها بعد تعداد 2020، فيما كسبت تكساس مقعدين، وفق بيانات “فايف ثيرتي إيت” و”يو إس إيه فاكتس”. ومع استمرار نزيف السكان من كاليفورنيا نحو ولايات الجنوب، من المرجّح أن يتعزز نفوذ تكساس في انتخابات الرئاسة المقبلة.

لحظة فاصلة؟

لأنها المرة الأولى التي يُكسر فيها العرف التقليدي القاضي بأن إعادة الترسيم تحدث مرة واحدة بعد كل تعداد. كما أوضحت “أسوشيتد برس”، دخلنا عصر “الخريطة المتجددة متى توافرت السيطرة التشريعية”؛ ما قد يفتح الباب أمام موجة انتقامية: كل ولاية ترد على الأخرى بخريطة أكثر انحيازاً.

ولأن القضاء سيصبح ساحة الفصل، كما تؤكد تقارير “نيويورك تايمز” و”بروكينغز”: من دعاوى التمثيل العادل للأقليات في تكساس إلى الطعون الدستورية ضد تجاوز اللجنة المستقلة في كاليفورنيا.

في النهاية، لا تبدو قصة تكساس وكاليفورنيا مجرد خلاف محلي على خطوط خرائط انتخابية، بل مفترق طرق للديمقراطية الأميركية: فهل تميل الكفة إلى حماية مؤسسات الاستقلالية والتمثيل العادل، أم إلى منطق “المعاملة بالمثل” الذي يشرعن التحزيم الحزبي؟ حتى اللحظة، تسير التطورات نحو تكريس “حرب خرائط” ستقررها المحاكم كما يقررها الناخبون، مقعداً بعد مقعد، وربما تحدد موازين السلطة في واشنطن لسنوات مقبلة.

زر الذهاب إلى الأعلى