مقالات وآراء

صوتك ليس موقفًا .. بل استعادة وطن

كتب / منى أحمد

 

يمر الجنوب العربي اليوم بلحظة استثنائية لم يعرف مثلها منذ عقود، لحظة تتقاطع فيها قوة الواقع مع قوة الوعي الشعبي، وتعود فيها إرادة الناس لتكون العامل الأول في رسم مستقبل وطنهم. لقد تغيّر ميزان القوة، وتبدّلت المعادلات، وبات الجنوب يقف على أرض جديدة لم يعد فيها ضعيفًا ولا تابعًا، بل صاحب قرار وصوت وتأثير. وفي هذه اللحظة، يصبح صوت المواطن الجنوبي هو الركيزة التي ستُبنى عليها الدولة، وهو العامل الحاسم الذي لا يمكن تجاوزه في أي تسوية أو مشروع أو مستقبل قادم.

 

عانى الجنوبيون كثيرًا عبر سنوات ما بعد 1994، حين فقدت المؤسسات دورها وتم إقصاء الكفاءات ونزع القرار من أهل الأرض. عاش الناس تهميشًا سياسيًا وجرحًا اقتصاديًا عميقًا، ورأوا ثرواتهم تنتقل إلى غيرهم بينما مدنهم محرومة من أبسط الخدمات. رأوا ميناء عدن يُعطّل، وموارد حضرموت وشبوة تُنهب، وفرص العمل تُغلق أمام الشباب. عاشوا شعور الغريب في وطنه. هذه التجربة لم تكن مجرد مرحلة سياسية، بل كانت امتحانًا للهوية والصبر والوعي. لكنها أيضًا صنعت شعبًا يعرف اليوم ماذا يريد، ويعرف أكثر ماذا لا يريد.

 

اليوم تغيّر كل شيء. الجنوب يمتلك قوة أمنية قادرة، ووعيًا شعبيًا متماسكًا، وحضورًا سياسيًا لا يمكن تجاهله. العالم ينظر إلى الجنوب بوصفه منطقة حيوية في أمن البحر الأحمر والملاحة الدولية، ويرى أن استقرار هذه الجغرافيا مرتبط بشكل مباشر بما يقرره أبناؤها. والأهم من ذلك أن أبناء الجنوب أنفسهم أدركوا أنهم لم يعودوا الحلقة الأضعف، وأن حقهم لن يُمنح لهم من أحد ما لم يفرضوه بإرادتهم ويثبتوه بصوتهم.

 

إن المستقبل الممكن أمام الجنوب ليس حلمًا بل خيارًا واقعيًا. دولة مؤسسات عادلة، اقتصاد ينهض بثروات الأرض والبحر، تعليم وصحة وأمن، وعدالة تحفظ حق الجميع. مستقبل لا يتحقق بالقوة وحدها، ولا بالتحركات السياسية فقط، بل يتحقق حين يقول الشعب كلمته بوضوح، وحين يقف المواطن الجنوبي مدركًا أن صوته هو الذي سيعيد شكل الدولة، ويرسم حدود المرحلة القادمة، ويمنح الجنوب المكان الذي يستحقه بين الأمم.

 

القانون الدولي يقف إلى جانب الشعوب التي تختار مصيرها. وتجارب التاريخ تؤكد أن الأمم التي استردّت دولها لم تفعل ذلك إلا حين اجتمعت إرادة الناس واتحدت كلمتهم. وهذا ما يملكه الجنوب اليوم: إرادة واضحة، وذاكرة قوية، وحق تاريخي لا يمكن إنكاره. الجنوب كان دولة قائمة، وحكم نفسه قبل الوحدة، ويملك اليوم الحجة القانونية والسياسية والشعبية التي تجعل صوته قوة لا تُهزم.

 

ولهذا، فإن الصوت الجنوبي اليوم ليس رأيًا عابرًا ولا موقفًا سياسيًا، بل هو فعل تاريخي يعيد الأمور إلى نصابها. كل كلمة تُقال، كل موقف يُتخذ، كل خطوة تُعلن؛ كلها جزء من استعادة الدولة. الجنوب في هذه المرحلة لا يحتاج إلى قوة أكبر من قوة إجماع الناس، ولا إلى سلاح أقوى من صوت المواطن حين يقرر أن هذا وطنه، وأن مستقبله من حقه، وأن عودته إلى دولته ليست مجاملة لأحد بل حق أصيل لا يسقط بالتقادم.

 

إن ما عاشه الجنوب منذ 1994 يجب أن يكون دافعًا لا جرحًا، وذاكرة قوة لا ذاكرة ألم. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يملك الشعب الجنوبي القدرة على تحويل هذه التجربة إلى طاقة تدفعه نحو استعادة ما فُقد، وبناء ما دُمّر، وإعادة الاعتبار للدولة التي انتُزعت منه بالقوة. إن صوت الجنوب هو الذي سيحسم، وصوت الجنوب هو الذي سيعيد الدولة، وصوت الجنوب هو الذي سيُغلق صفحة الماضي ويكتب صفحة وطن جديد يولد بإرادة شعبه.

 

هذه اللحظة ليست لحظة انتظار، بل لحظة فعل. ليست لحظة تردد، بل لحظة قرار. والمستقبل الذي يليق بالجنوب يبدأ من كلمة المواطن… من صوته… من وعيه بأن حق تقرير المصير لا يُعطى، بل يُنتزع حين يعلن الشعب أنه صاحب الأرض والقرار والدولة.

زر الذهاب إلى الأعلى