كنوز عابرة.. رحلة الذهب المذهلة عبر مليارات السنين

كريترنيوز /متابعات /وائل زكير
لطالما أسر الذهب البشر ببريقه وقيمته عبر التاريخ، لكن رحلته على كوكب الأرض أعجب من أي خيال. قبل نحو 4.5 مليارات سنة، وبينما كانت الأرض تتشكل من نيران الاصطدامات الكونية والصهارة المنصهرة، بدأ الذهب رحلته العجيبة من أعماق الوشاح نحو سطح الكوكب. اليوم، كل قطعة ذهبية نرتديها أو نحتفظ بها هي شاهد حي على هذه المغامرة الكونية الطويلة، من الانفجارات النجمية الأولى إلى الصخور المنصهرة، مرورا بالتحولات البركانية التي دفعت الذهب أخيرا إلى أيدينا.
من أين جاء الذهب أصلًا؟ ولماذا نجده اليوم في القشرة الأرضية بدلاً من أن يختفي في أعماق النواة الحديدية؟
سؤال حيّر العلماء لعقود طويلة، إلى أن كشفت دراسة حديثة نُشرت في مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم الأمريكية (PNAS) عن خيوط الإجابة، مقدمةً رؤية جديدة حول الرحلة المذهلة التي خاضها الذهب منذ الأيام الأولى لتكوّن كوكب الأرض.
البداية حين كانت الأرض جحيماُ من النار والمعادن
قبل نحو 4.5 مليارات سنة، كانت الأرض في طور التكوين، تتعرض لوابلٍ من الاصطدامات العنيفة مع كويكبات وأجرام ضخمة، بعضها بحجم القمر تقريبًا.
تلك الاصطدامات أدت إلى انصهار أجزاء ضخمة من الكوكب، وخلقت محيطات من الصهارة المعدنية المنصهرة، حيث كانت العناصر الثقيلة مثل الحديد والنيكل تغوص نحو مركز الأرض لتكوّن النواة.
لكن في أثناء هذه العملية، واجه العلماء لغزا كبيرا ، العناصر النادرة والثمينة مثل الذهب والبلاتين تُعرف بأنها محبة للحديد، أي تميل للاندماج معه عند درجات الحرارة العالية. وبناءً على ذلك، كان من المفترض أن تختفي تمامًا في النواة الأرضية.
ومع ذلك، لا تزال هذه العناصر موجودة في القشرة والوشاح، بل ونستخرجها اليوم من أعماق لا تتجاوز عشرات الكيلومترات تحت سطح الأرض.
فكيف نجت من الرحلة نحو النواة؟
النظرية الجديدة.. المنطقة العابرة التي حبست الذهب
العالِمان جون كوريناجا من جامعة ييل وسيموني ماركي من معهد ساوث ويست للأبحاث، طرحا نظرية جديدة أطلقا عليها اسم “المنطقة العابرة” (Transient Region).
وفقا لهذه الفرضية، بعد الاصطدامات الضخمة في بداية تكوين الأرض، لم يكن الوشاح الأرضي كله منصهرا بشكل كامل، بل كان جزء منه سائلًا وجزء آخر لا يزال صلبا.
وفي تلك المنطقة المختلطة — بين السائل والصلب — حدثت معجزة صغيرة غيّرت مصير الذهب إلى الأبد.
توضح الدراسة أن هذه المنطقة كانت تعمل كـ”فخ مؤقت” للعناصر المعدنية. فبينما كانت قطرات الحديد المنصهر المليئة بالذهب تهبط نحو المركز، كانت تصطدم بهذه الطبقة شبه الصلبة، فتبقى معلّقة فيها لفترة قصيرة.
ومع اضطراب الحركة والحرارة، توزّعت هذه القطرات في الوشاح العلوي بدلًا من أن تغوص إلى النواة.
المذهل أن هذه العملية — رغم أهميتها الهائلة — لم تستغرق سوى يوم واحد فقط!
يوم واحد كان كافيًا لتحديد مصير كميات الذهب التي سنجدها بعد مليارات السنين على سطح الأرض.
من أعماق الوشاح إلى المناجم
مع مرور الزمن، استقرت تلك المعادن الثمينة في طبقات الوشاح العلوي، ثم صعدت تدريجيًا عبر الحركات البركانية والتكتونية إلى القشرة الأرضية.
هناك، وعلى مدى مئات الملايين من السنين، تم تجميعها في رواسب وغرف صخرية حتى أصبحت المناجم التي نعرفها اليوم.
بهذا الشكل، يكون الذهب الذي نرتديه اليوم في شكل خاتم أو سبيكة، قد بدأ رحلته في جحيم الأرض المنصهر قبل مليارات السنين، ثم عبر آلاف الكيلومترات من الصخور والحرارة قبل أن يصل إلى أيدينا.
قطعة الذهب الصغيرة تلك هي في الحقيقة شاهد على تاريخ كوني طويل من الانفجارات، والتصادمات، والتحولات الجيولوجية العنيفة.
دليل جيولوجي ما زال حاضرا في أعماق الأرض
يشير الباحثون إلى أن بقايا تلك “المنطقة العابرة” ربما لا تزال موجودة حتى اليوم على عمق آلاف الكيلومترات تحت أقدامنا.
ويُعتقد أن هذه البقايا هي ما يعرفه الجيولوجيون بـ “المناطق منخفضة سرعة القص” (LLSVPs)، وهي مناطق ضخمة داخل وشاح الأرض، تُلاحظ في البيانات الزلزالية وتُظهر خصائص فيزيائية مميزة تختلف عن باقي الوشاح.
قد تكون هذه المناطق هي السجلّ الأخير لتلك المرحلة الغامضة التي احتُجز فيها الذهب قبل أن يصعد تدريجيًا إلى الأعلى.
فرضيات أخرى وملاحظات علمية
رغم قوة النظرية الجديدة، فإن بعض العلماء يرون أنها ليست القصة الكاملة.
فهناك فرضيات أخرى تقول إن الذهب لم يكن موجودًا أصلًا على سطح الأرض في البداية، بل أضيف لاحقًا من خلال ما يُعرف بـ “الوشاح المتأخر” (Late Veneer)، أي أن نيازكًا غنية بالذهب اصطدمت بالأرض بعد أن تشكلت نواتها، وأعادت تزويد قشرتها بهذه العناصر النادرة، وفقا لـ ” scitechdaily”.
كما يشير باحثون آخرون إلى أن العمليات الجيولوجية الحديثة، مثل حركة الصفائح الأرضية والبراكين، تلعب دورًا كبيرًا في إعادة توزيع الذهب داخل القشرة، عبر السوائل الحرارية التي تذيب المعادن وتنقلها إلى أماكن تتجمع فيها بكثافة عالية، وهي المناجم التي نستخرج منها اليوم.
لكن حتى مع هذه الاحتمالات، تظل فرضية “المنطقة العابرة” مثيرة لأنها تربط بين الفيزياء الكونية المبكرة وتوزيع المعادن النفيسة على كوكبنا اليوم، في حلقة علمية متكاملة تجمع بين الجيولوجيا والكيمياء الفلكية.
الذهب: أكثر من مجرد معدن
قصة الذهب لا تقتصر على الثراء والزينة، بل هي حكاية عن الزمن والكون والنجاة ، كل ذرة ذهب في خاتمك أو هاتفك أو ساعة يدك، وُلدت قبل أن تولد الأرض نفسها — في انفجارات نجوم عملاقة تُعرف بـ السوبرنوفا أو في تصادمات نجوم نيوترونية، ثم خاضت رحلة كونية طويلة، من أعماق الفضاء إلى باطن الأرض، حتى ظهرت في متناول الإنسان.
اليوم، وبعد هذه الدراسة الجديدة، نفهم أن الذهب الذي نحبه لم يكن مجرد صدفة جيولوجية، بل نتيجة سلسلة معقدة من الأحداث الكونية العنيفة التي بدأت قبل مليارات السنين، وما زالت آثارها تُدهشنا حتى الآن.
هذه الرحلة العجيبة للذهب تذكّرنا بعظمة الخالق سبحانه وتعالى الذي نظم الكون بحكمة بالغة، وجعل كل ذرة من هذا المعدن النفيس شاهدة على اتساع قدرته ودقة صنعه. فكيف لأرضٍ تكونت من انفجارات نجمية وتصادمات هائلة، أن تحمل في باطنها كنوزا تظهر بعد مليارات السنين لتبهج الإنسان؟ كل ذرة ذهب في خاتمك أو ساعة يدك، تحمل قصة عن الإبداع الكوني والحكمة الإلهية، وتذكرنا بأن كل تفاصيل الكون، من أعماق الأرض إلى أبعد النجوم، تدل على القدرة الإلهية التي لا يحيط بها العقل البشري.